د.عبدالله البريدي
(1)
من الواضح أننا بتنا نؤمن بأهمية التعليم الفني والتقني بشكل أكبر، وبأن نسبة كبيرة من خريجي التعليم العام يتوجب أن يتجهوا إلى هذا اللون من التعليم. وهذا أمر جيد وقناعة مهمة، وأن تصل متأخراً خير من ألا تصل مطلقاً. القناعات المجردة لا تولد النتائج المنشودة. وبكل صراحة أقول وبحكم خبراتي في التعليم الفني والتقني لمدة 16 عاماً، أقول بأن التعليم الفني والتقني تنقصه أمور أساسية، غير أنني أشدد في هذا المقال على أهمية جانبين، وهما: (1) الرؤية الاستراتيجية الثاقبة، (2) الكارزما (الصورة الذهنية الإيجابية للمنظمة). سوف أتناول هذين الجانبين بقدر من التفصيل والتركيز عبر المحاور الآتية.
(2)
شهد التعليم الفني والتقني في السنوات الماضية تقلباً شديداً وتأرجحاً مربكاً بين «قناعات» و»اجتهادات» لمسؤوليه ومتخذي القرار فيه. وفي كثير من الأحايين لا نظفر بشيء ذي قيمة، على الرغم من الإنفاق الحكومي السخي عليه. مثلاً، لنتساءل - ومن حقنا أن نتساءل بل من واجبنا - عن برامج «كليات التميز» التي أهدرت فيها المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني مئات الملايين بلا طائل يذكر، وهذه المسألة تستلزم منا إعادة فتح هذا الملف للنظر في كيفية اتخاذ القرارات والآثار السلبية المترتبة عليها، من حيث التكاليف والتخبط العشوائي بين البرامج والمسارات، ولا سيما أن رؤية 2030 تشدد على الحوكمة والمساءلة والشفافية.
من معالم التخبط والارتجالية في مسيرة هذه المؤسسة النظرة المجففة للمسار التعليمي، حيث تم تهميش البعد التعليمي وإفقار المقررات في البرامج في الكليات التقنية وغيرها؛ بزعم عدم الحاجة نهائياً للتعليم، وإنما للتدريب فقط، وكأن التدريب يمكن أن يتحقق دون قدر كاف من التعليم!! وقد انعكس ذلك النهج الغريب على مسمى المؤسسة ذاتها حيث أزيلت كلمة «التعليم»، وأدى ذلك أيضاً إلى هشاشة ما يسمونه بـ»الحقائب التدريبية» وتسطيحها بشكل جلي (وأنا قارنت بين بعض المقررات التي كنت أدرسها والمقررات الحالية وتأكدت من ذلك من عدد من الزملاء).
وهنا دعوني أروي لكم قصة طريفة، حدثت في إحدى الكليات التقنية في المملكة. يقول أحد أساتذة الثقافة الإسلامية بأنه وجد في الحقيبة التدريبية لمادة الثقافة الإسلامية معلومة غريبة في نص ما، حيث ورد في النص جملة: «الصحابي الجليل علي بن أبي المتدرب». يقول هذا الأستاذ بأنني استغربت من هذه المعلومة، وتضايقت كثيراً، إذ كيف لا أعرف صحابياً جليلاً وأنا خريج دراسات شرعية. يقول، فلما أعدت قراءة النص مرة أخرى، اكتشفت المفاجأة. وما هي؟ يقول بأن هذا الصحابي هو «علي بن أبي طالب» - رضي الله عنه - ولكن جهة ما مسؤولة عن تطوير الحقائب التدريبية قامت بالإغارة على كلمة «تعليم» ومنظومتها واستبدالها بكلمة «تدريب» وملاحقاتها (هنا حولوا كلمة طالب إلى متدرب)، ويبدو أنهم توسلوا بطريقة التبديل الموجودة في برنامج الوورد، فحدث هذا الخطأ الطريف، غير المقصود!
لكي نضع النقاط على الحروف، أبادر بالقول بأن الرؤية الاستراتيجية تحتاج إلى «مسؤولين مفكرين» وليس إلى «مسؤولين تنفيذيين»، وينتج المسؤولون المفكرون عادة من عاملين:
العامل الأول: ويعود إلى المسؤولين أنفسهم من حيث فلسفتهم الإدارية وقدراتهم الاستراتيجية، ونمطهم القيادي، والذي يتأسس على بلورة رؤية استراتيجية ملهمة، والقدرة الفائقة على جعل منسوبي المنظمة يؤمنون بها ويسعون بكل جدية إلى تحقيقها.
العامل الثاني: ويرجع إلى ثقافة المنظمة التي ينتمون لها، ومدى تكريسها للبعد الاستراتيجي في تفكيرها واتخاذها للقرارات، من حيث استخدام فعال لنقاط القوة وتغلب جاد على نقاط الضعف، واستغلال نابه للفرص ومقاومة ذكية للتحديات، وكل ذلك يقضي بتعظيم وتنويع مسارات التعاون والشراكات.
وفي ضوء كل ما تقدم، أعتقد جازماً بأن «المسؤولين المفكرين» القادرين على إيجاد إصلاح حقيقي للعطب الموجود المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني هم من القيادات المؤهلة في شركة أرامكو، ممن يعنون بالجانب المتعلق بالتدريب والتأهيل في المسارات التقنية، حيث المعايير العالية بجانب الخبرات الواسعة لهذه الشركة العملاقة، والشراكات العالمية المتينة مع كبريات الشركات والمؤسسات والجامعات، ولديها مشاريع جبارة تعنى بإثراء المجتمع المعرفي السعودي، ومنها «مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي».
إن اختيار قيادات مؤهلة من أرامكو لقيادة دفة العمل في التعليم الفني والتقني سيضمن تحقيق قفزة نوعية ملموسة وفق رؤى استراتيجية ثاقبة، وبخطوات متسارعة ملموسة.
(3)
السر الثاني الضروري لنجاح التعليم الفني والتقني هو الكارزما، وأعني به مستويات الجاذبية لهذا اللون من التعليم في أذهان خريجي الثانوية العامة والمتوسطة. لا يمكن أن نتصور سيناريو توجه أو توجيه أعداد كبيرة من أبنائنا وبناتنا إلى الكليات التقنية والمعاهد الفنية دون أن تكون لهذه الكليات والمعاهد صور ذهنية إيجابية، وهذا ما نقصده بالكارزما.
ما الصورة الذهنية الراهنة لهذه الكليات والمعاهد في أذهان الأبناء والبنات؟ وفق خبراتي السابقة وما أشاهده من انخفاض مستويات القبول في هذه الكليات والمعاهد على الرغم من وجود مقاعد شاغرة تقدر بآلاف الفرص، وما أسمعه من الزملاء العاملين في المؤسسة، يتضح لي بأن الصورة سلبية في أغلب الحالات للأسف الشديد. ويمكن لجهة بحثية مستقلة أن تنفذ دراسات مسحية على عينة كبيرة، لنتأكد من صحة هذا التوصيف الذي يمكن أن نعده أولياً.
لا أعتقد أن نوعية البرامج المقدمة حالياً في التعليم الفني والتقني قادرة على رفع مستويات الكارزما، ففاقد الشيء لا يعطيه. إن الصورة الذهنية الإيجابية لا يصنعها إلا «المسؤولون المفكرون» لا المسؤولين التنفيذيين، الذين تغيب عنهم أصلاً هذه الإشكالية، أو أنهم يحاججون بعدم الحاجة إليها نظراً لوجودها في منظماتهم وفق زعمهم، ونحو ذلك من التصورات والمواقف التي لا تخدمنا في سياق نحن بأمس الحاجة فيها إلى رفع معدلات استيعاب مئات الآلاف من الخريجين في برامج الكليات التقنية والمعاهد الفنية بجميع مستوياتها، وفي تخصصات متنوعة؛ وفق البرامج والخطط المعتمدة في مجال التصنيع والخدمات والتجارة والزراعة.
وجود الكارزما لا يضمن توافد الأعداد الكبيرة فقط وهو ما يمثل الجانب الكمي، بل يشجع الجانب النوعي، إذ إن الكارزما عامل معين على اجتذاب الكفاءات المبدعة والطاقات الشابة المميزة، القادرة على الإبداع والاختراع في المسارات التقنية والفنية، مما يعين على زيادة براءات الاختراع السعودية والوصول إلى حلول مبتكرة لتخفيض تكاليف التشغيل وتحسين مستويات الأداء والإنتاجية في منظماتنا ومصانعنا وفي مختلف المجالات الميكانيكية والكهربائية والإلكترونية وغيرها.
هنا اسمحوا لي بالاستشهاد بحالة عملية وهي حالة كلية الاقتصاد والإدارة بجامعة القصيم (التي أعمل بها منذ عشر سنوات). كنا في الكلية نشتكي من ضعف مستويات المدخلات (الطلبة الملتحقين بالكلية)، حيث يتوجه طلبة ضعاف في معدلاتهم وقدراتهم وجديتهم. وبعد حصول الكلية على الاعتماد الدولي AACSB وتطوير الكلية لبرامجها وطرائق تدريسها وبيئة التعليم، تحسنت المدخلات كثيراً، لدرجة أنه بات بعض الطلبة النابهين يحولون إلى الكلية قادمين من تخصصات علمية مميزة كالهندسة والتخصصات الصحية.
إن الكارزما المنشودة تتطلب عملاً سيكولوجياً محترفاً ينجح في الدخول إلى عقول الناشئة وتكوين تصورات عقلية ووجدانية إيجابية عن المنخرطين في المسارات الفنية والتقنية، بما في ذلك حصولهم على احترام مجتمعي كبير، وقدرة برامج التعليم الفني والتقني على إكسابهم مهارات جديدة، قادرة على جعلهم يحصلون على وظائف أو تأسيس منشآت صغيرة ومتوسطة؛ تدر عليهم دخلاً جيداً. هذا العمل لا يطيقه إلا نوع من القياديين الاستراتيجيين.
(4)
هذه نصيحة عملية أقدمها في مسار بحثنا الجاد عن تنويع استيعاب أبنائنا وبناتنا في برامج التعليم العالي وبرامج التعليم الفني والتقني وفق رؤية 2030، وخطة آفاق للتعليم العالي، حيث حددت نسبة كبيرة للتعليم الفني والتقني تصل إلى 25%؛ مع الإشارة إلى أن يكون القبول في كليات المجتمع بنسبة 15%، ونظراً لفشل كليات المجتمع في استيعاب هذه النسب وضعف برامجها في كثير من الجامعات؛ فإن من المنطقي أن هذه النسبة ( 15%) يتم استيعابهم في التعليم الفني والتقني لتصل النسبة إلى ما يقارب 40%.
لا حل جذرياً للتعليم الفني والتقني - في رأيي المتواضع - دون وجود هذا النوع من «المسؤولين المفكرين»، المتسمين بـ»الاستراتيجيا» و»الكارزما». حينها سنكون قادرين على تحقيق نتائج رائعة.