د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
قد لا يكون مناسبًا توجيه السؤال إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية لأن سلامة المشاة أمر يتحقق على أرض الواقع الذي تراه وتراقبه ميدانيًا الجهات التنفيذية، وهي الأمانات والبلديات. إِذ إن من الملاحظات المؤسفة عن سلامة المشاة في مدننا أنه ينظر إليها باعتبارها قضية مرورية - كالدهس مثلاً - أي ضمن قضايا السلامة المرورية التي تخصص لها المؤتمرات والأبحاث والخطط، وهي جديرة بذلك فعلاً، ولكنها تجعل أصحاب الشأن ينسون دور أمانات المدن وبلدياتها في تأمين سلامة المشاة من حيث حمايتها ومعالجة المخاطر التي تهددها - سواء المرورية أو غيرها. من ذلك على سبيل المثال:
أولاً - أن للأمانات والبلديات في تأمين السلامة المرورية للمشاة دورًا مشاركًا مع إدارات المرور، يتمثّل في دعم نشر الثقافة المرورية الوقائية وتوعية السائقين بشأن المارة الذين يعبرون الشارع سواء الشوارع العامة أو شوارع الأحياء، وتوعية المارّة أيضًا بمراعاة أماكن عبور الشارع والانتباه لسرعة واتجاه السيارات؛ كما يتمثّل في التنسيق مع المرور في تحديد الأماكن المخصصة لوضع إشارات المرور أو لإنشاء جسور أو أنفاق لعبور المشاة، وفي وسائل الحدّ من السرعة في شوارع الأحياء التي يلجأ لها السائقون لتحاشي زحام أو تحويلات أمامهم، وفي إقرار الشوارع داخل الأحياء التي يسمح فيها بمرور السيارات باتجاهين أو منع ذلك.
ثانيًا: - أن الأرصفة - وهي مملكة المشاة - تُحسب ضمن أنشطة تجميل الشوارع، مثل زرع الأشجار وأعمدة الإنارة، وهذا صحيح جزئيًا، فهي فعلاً تجمّل الشوارع إذا كانت هي نفسها جميلة، ولكن ليس هذا غرضها الأهم. فأهمّ من ذلك أنها توفر للماشي منطقة آمنة منزوعة الخوف من التعرض للدهس، لأنها مرتفعة عن مستوى متن الشارع، وأنه يُفترض فيها أن تتيح للماشي سيرًا مطمئنًا لا ينغصه عوائق على الرصيف، وأن تتيح له أن يدفع أمامه بسهولة كرسيًا متحركًا يجلس عليه من لا يستطيع المشي، أو عربة طفل صغير - إلى آخر ما يلبّيه الرصيف من حاجات المشاة. ولكن هل الواقع يطابق ذلك؟ سنلاحظ حتى في أكبر مدننا وأحدثها عمرانًا أن الأرصفة الموجودة هي آخر ما يقلق البلديات والأمانات:
= بعض الأرصفة - بل أكثرها - يستخدمها أصحاب المحلات أو المباني ضدّ مصلحة المشاة. فنجد من يبسط عليها شيئًا من بضاعته، أو يبنى درجًا يرتفع إلى مستوى فتحة المحل أو المبنى ويأخذ معظم عرض الرصيف، أو ينزل درجة أو أكثر عن مستوى الرصيف إلى مستوى فتحة المحل أو المبنى. ونجد كذلك من لا يفتح باب محله الزجاجي إلا إلى الخارج، ومن يقيم أعمدة أو زخارف أمام المحل تحتل معظم عرض الرصيف. وفي كثير من الأحيان تُنشأ أحواض أشجار في وسط الرصيف تعلو بسورها على مستواه وتضيّق مساحة المرور من الجانبين.. إضافة لذلك لا تخلو كثير من الأرصفة من الحفر أو النتوءات من سوء الرصف. أمام هذه العوائق ما الذي يستطيع أن يفعله الماشي لنفسه أو لمن يدفع عربته غير أن ينزل مضطرًا إلى عرض الشارع محاذرًا من خطر الحركة المرورية. وفوق ذلك فإن أكثر الأرصفة مرتفعة حوافّها في طرفي الرصيف، بحيث لا تتمكّن الكراسي المتحركة أو العربات من الدخول للرصيف والخروج منه إلا بمساعدة.
= بعض الشوارع التجارية وكثير من الشوارع غير التجارية يخلو بعض أجزائها من الرصيف أصلاً، أو يكون الرصيف مغطّيًا بالأحجار الخرسانية، أو مطمورًا بأعمال إنشائية مجاوره، أو ضيقًا لا يصلح للمشي، أو تقف عليه بعض السيارات.
= لا يجب إغفال غرض آخر من أغراض الرصيف - عدا السلامة المرورية وتجميل الشوارع - وهو أن المشي على الرصيف الآمن متعة لراغب المشي الرياضي الصحي، ومتعة لهاوى المشي والتفرج على الفاترينات والحديث مع المرافق.
ثالثًا- بعض المباني والأرصفة ترتفع أو تنخفض كثيرًا عن منسوب الشارع فلا يصل إليها الماشي إلا بصعود أو هبوط درج كثير قد يفتقر إلى عوارض يمسك بها الماشي أو مانعات للانزلاق.
رابعًا- سلامة المشاة ليست منشودة فقط على الأرصفة، بل الحرص عليها أشدّ لحماية المشاة من السقوط في الفخاخ المنصوبة - بداعي الإهمال وليس التعمّد. فكم قرأنا عن حوادث سقوط أدت إلى الموت إما في فجوة صرف صحي غير مغطاة - في الشارع أو في فناء مجمع تجاري أو غير ذلك من الأماكن - أو في حفرة عميقة غير مسيّجة نتيجة أعمال إنشائية مثلاً. ولا عبرة هنا بالقول إن المتسبب في ذلك ليس البلدية بل المقاول أو صاحب المجمع أو جهة ما، لأن البلديات هي المرجع الرسمي المسؤول عن حماية المشاة، إِذ تملك السلطة والصلاحيات لتراقب وتعاقب، وتسارع بالتدخّل فور الإبلاغ من مراقب البلدية أو المواطنين عن وجود مثل هذه الفخاخ لتلافي مثل تلك الحوادث قبل وقوعها.
يثير العجب كثيرًا أن تكون أمانات المدن الكبرى قادرة على إنشاء جسور وأنفاق وطرق وحدائق وأسواق وتمويل مشروعات نظافة ضخمة، وقادرة على إصدار أنظمة صارمة بشأن التراخيص والفسح واستحصال الرسوم، والصرف منها، ولكنها تظهر عدم القدرة على مراقبة استخدام وصيانة مشروعات طلبت إنشاءها - مثل الأرصفة - أو رخّصت لها - مثل مشروعات البناء أو الحَفْر للتمديدات المختلفة.