د. حمزة السالم
الخلاف والنزاع بين المقرضين والمقترضين قديم بقدم النقود. وفي الثورات الجائعة، ينصب جام غضب الثوار الجائعين المثقلين بالديون على المرابين. ولا تكاد تخلو مدينة أوربية شهيرة من شارع خاص باليهود، الذين غالباً ما يكونون في فترة ما طحين ذاك الغضب. ومن شواهد ذلك قتل الثوار الفرنسيين للديانة (المقرضين). وغالباً ما ترفع الثورات والانقلابات شعارات ضد الاستغلاليين وعلى رأسهم المقرضون. حتى إذا ما استقرت الأمور، أصبح قادة الثورات والانقلابات أكثر الناس حماية وعناية للمقرضين وأشد عقاباً على المتخلفين والمتعثرين من المقترضين.
وميل الحكومات للمقرضين أمر مُطرد في كل الأنظمة والأيدولوجيات -التي يعترف فيها بحق الملكية-، ما عدا في الأنظمة الديمقراطية الحديثة. فالمقترضون هم الغالبية العظمى من الشعب، وهم الذين يستطيعون الإطاحة بالحكومات وتحديد الرئيس المنتخب والتجديد له. لذا فالأنظمة الديمقراطية في جانب المقترض إلى حد لا يخل بالنظام الاقتصادي المالي المحلي. فبسبب الديمقراطية، أصبح رفض منح قرض بدون سبب واضح جريمة يُحاكم عليها البنك، وأصبح حماية المُفلس قانوناً يلجأ اليه المتعثر. فتحول الدين أو التعثر أو عدم السداد إلى حق إنساني بعد أن كان عاراً يُعاب به صاحبه.
وقد حدث هذا التطور الإنساني طبيعياً. فالمجتمعات تتكيّف في تعاملاتها الإنسانية كتكيّف الجسد مع البيئة. فنوع الإنتاج، صناعي، زراعي، مالي هو الذي يحدد فلسفة الاقتصاد والاقتصاد هو الذي يحدد شكل السياسة. والصناعة تحتاج لتركز رؤوس الأموال، مثلها مثل جميع أشكال الإنتاج الأخرى، إلا أتها تختلف بأن الصناعة تحتاج لطبقة وسطى مستهلكة وعاملة، بخلاف الاقتصاد الزراعي والمالي. ولهذا خلق الإنتاج الصناعي نظام الرأسمالية. والرأسمالية خلقت الديمقراطية التي بضغط المصوتين، ألزمت الُمقرض بتحمّل المخاطرة وبذلك تتوجه أموال المجتمع إلى الأكفأ والأعلى إنتاجا. فالمقرضون سيحرصون على إقراض أصحاب أفضل المشاريع، وأكثرها إنتاجية لضمان مقدرتهم على إرجاع حقوقهم - فالأنظمة الديمقراطية لا تسجن المفلس أو العاجز عن السداد فإما أن تحميه لتحييه فتعيده للإنتاج.
فبهذا أصبحت الحكومة في الدول الديمقراطية المتحضرة، هي المسؤولة عن حماية المواطن من استغلال الدائنين لأنها هي المُفترض أن يكون لديها الخبرة وتملك الخبراء, وهي موضع الثقة, فهي من تعمل للمصلحة العامة, وهي المسؤولة عن منع استغلال القوي للضعيف - والجاهل ضعيف.