محمد أبا الخيل
التنمية الحضارية هي السبيل للنهوض بالأمم وتحسين معيشتها وتحقيق الرخاء والمتعة في الحياة، وكل حكومات الدول في عالمنا الأرضي تسعى إلى تحقيق التنمية الحضارية واستدامتها، وتوظف لذلك الموارد والقدرات الكامنة في مجتمعاتها, وبقدر ما يتم توظيف تلك الموارد والقدرات بصورة فاعلة تنمو مجتمعاتها حضارياً أسرع من غيرها.
نظرت في مسيرة التنمية الحضارية لعدة دول لاستجلاء المشترك الأعظم بين تلك الدول، والذي كان له الأثر الأكبر في تحقيق التنمية، فقد نظرت في صعود اليابان وألمانيا تنموياً بعد الحرب العالمية الثانية وتطور كوريا الجنوبية من بلد زراعي لجبار صناعي وسنغافورة من بلد يئن تحت الفقر لمركز ثروة هائلة وكذلك ماليزيا والإكوادور وتايلاند وتركيا، كل هذه البلدان لم تتقدم حضارياً بفعل ثرواتها الطبيعة أو جمال جبالها وعذوبة مائها أو زرقة سمائها، هذه البلدان تقدمت بفعل عامل مهم وهو العامل المحرك لكل تغير تنموي ذلك هو الإنسان، الإنسان كفرد والإنسان كمجتمع.
كل دول العالم تعتمد على إنسانها في التنمية الحضارية، ولكن هناك اختلافات جوهرية فيما يحقق إنسان بلد عن بلد آخر حضارياً، فمعظم دول العالم اليوم توفر التعليم العالي والمتخصص لمعظم فئات شعوبها، ومع ذلك ما زالت دول ذات رصيد هائل في التعليم ترزح تحت وطأة الفاقة والعجز الحضاري، لذا نستنتج إن التعليم وإن كان أساسيًا ويعد اللبنة الأولى في بناء القدرة على التقدم الحضاري، إلا أنه لا يكفي لتحقيق التنمية الحضارية، وهذا يجعلنا نبحث عن عامل أساسي وبنيوي في تكوين القدرة البشرية على التنمية واستدامتها، ربما يرى البعض أن ذلك يكمن في المهارة الفنية والحرفية والقدرة على تحويل المعرفة لمنتجات سلعية وخدمية، وهذا الاستنتاج جدير بالتمعن والتدبر، ولكن بملاحظة بلدان تميز شعبها بذلك على نحو واضح مثل الفلبين والباكستان واليونان ومصر وجواتيمالا، لم تحقق تلك الشعوب تنمية حضارية في بلدانها وبعضها يعاني من تخلف وهجرة للمبدعين منها لبلدان أخرى.
أنا، أزعم أن ذلك العامل الخفي في تنمية الشعوب هو منظومة الفكر الجمعي للمجتمع والذي قد يكون أحد منتجات التعليم مستديم التأثير، وقد يكون له أسس تراثية تاريخية في المجتمع، ومنظومة الفكر الجمعي للمجتمع تشمل المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد والأنماط الذهنية السائدة، وحيث إن معظم دول العالم في نهاية الحرب العالمية الثانية تحقق لها حق تقرير المصير والإدارة الذاتية لشؤونها، فقد تحقق لبعضها تنمية حضارية متميزة، هذه الدول التي تميزت بحضاراتها، تشترك بسمات ذلك الفكر الجمعي، ومن أهم تلك ثلاث سمات واضحة الحضور وهي غير واضحة أو غائبة على نحو ملاحظ في المجتمعات التي عجزت عن تكوين تنمية حضارية تليق بها، هذه السمات الثلاث هي:
1- المسؤولية الذاتية: وهي شعور الإنسان بمسؤولية فردية عن ذاته، مسؤولية تجاه الحاجة للتعلم والحاجة للمهارة والحاجة للإبداع والحاجة لتحسين المعيشة والحاجة للإنتاج والكسب والحاجة للوعي بالفرص والسعي الدءوب لتحصيلها، هي الشعور بمسؤولية ذاتية لا تحتمل التوكل ولا التواكل ولا الاعتماد على الغير سواء قريب أو صديق أو فاعل خير, هي شعور بالمسؤولية تجاه تحقيق الكرامة والعزة الشخصية والقلق والخوف من الذل والهوان والحاجة للغير.
2- تقدير حرية الاختيار: وهي الشعور بحق الغير في اختيار نمط المعيشة والمعتقد والفكر والإحجام عن القول والفعل الذي يحد من حريات الآخرين التي يتيحها النظام العام.
3- التعايش: هو شعور يتبلور في صورة سلوك يومي حيث تتماثل مكونات المجتمع العرقية والدينية و الثقافية في الحقوق والواجبات والفرص وتمتثل لقانون واحد يحقق المساواة المدنية دون تسلط أو استبداد فئة دون غيرها.
هذه السمات الفكرية الثلاث متى تحققت في مجتمع مؤسس بالعلم والمعرفة، فهي بلا شك ستكون نبراس التنمية الحضارية، والتقدم الاقتصادي ومتى غابت أي منها فلن يتوفر للمجتمع التوازن الفكري اللازم للتنمية وربما ينحدر المجتمع إلى صراعات خفية بين مكوناته لا تقود للتراجع في التنمية الحضارية فقط بل ربما تهوي بالمجتمع لصراعات مريرة كما هو ملاحظ لدى بعض الشعوب.