د.ثريا العريض
مع أني لم أستطع حضور الملتقى الأخير في مركز الحوار الوطني الذي تم مؤخراً لانشغال شخصي طرأ بمهمة حرمتني من المشاركة, إلا أنني سعدت بسماع شهادات إيجابية وإشادة ممن حضروا وشاركوا. وأنتهز الفرصة بدوري لأشكر القائمين عليه خاصة الأستاذ فيصل المعمر ورئيس المركز والأستاذة أمل المعلمي نائبة الرئيس, ليس فقط على الدعوة بل وعلى تميز نشاطات المركز ومواكبتها لإستراتيجية التحول الوطني ورؤية 2030.
نحتاج نشر ثقافة الحوار بأسلوب راقٍ, حتى حين يشارك فيه نخبة قادة الرأي في المجتمع.. والرقي لا يعني الاتفاق في تفاصيل المقترحات, بل يعني منح الفرصة لكل المشاركين لطرح الرأي والإصغاء للرأي الآخر دون الإنحدار للشخصنة والتحقير. مع الأسف صار هذا معتاداً في حواراتنا العفوية والمنظمة؛ وما يهم في مثل هذه اللقاءات ليس فقط تجميع الطروحات في حد ذاتها، حيث غالبا معظمها يأتي متوقعاً ومرتبطاً بمرئيات الأفراد ومعروف توجههم مسبقا. وتتشابه تصرفات الأفراد عبر الفئات والتيارات. والثقافة لا علاقة لها بأي تيار ينتمي إليه المرء ولا أي إيديولوجية يتبع الثقافة أسلوب تعامل.. وحتى وقت قريب ظلت ثقافة الحوار هشة.. وفي كل الفئات المشاركة هناك من يجهل أو يتجاهل كيف يمارس الثقافة في تصرفه الفردي ويمنح الآخر حق التعبير وفرصة أن ينصت إلى رأيه باحترام محايد.
كان يستوقفني في حوارات وملتقيات سابقة شاركت فيها مع وخارج مركز الحوار أننا نستخدم المصطلحات كمسميات لتجريديات ذهنية تختلف تفاصيلها بين المستخدمين وبالتالي نتداول هذه المصطلحات التي تكاثرت في نقاشات الساحة دون التوقف للتفكر في معانيها الجوهرية حيث سنكتشف ان هذه المصطلحات تحمل معان مختلفة للفئات المختلفة؛ أو حتى للأفراد المنتمين لنفس الفئة. والإختلاف في فهمها هو ما يسبب إشكالية التفاهم فينحدر الحوار إلى جدل عقيم أو جارح.
ولعل أهم اختلاف في فهم المصطلح هو ذاك الذي يحيط بتعبير « ثقافة» ذاته. «الثقافة» هي أسلوب الحياة الذي نعتنقه ونمارسه, فثقافة الديموقراطية غير ثقافة الرأي الواحد والقمع لغيره, وثقافة احترام تميز المنجز غير ثقافة تقديم السن أو المال أو النسب أو الانتماء الفئوي. ولكن «الثقافة» عندنا مصطلح اختزل معناه مرتبط بالتحصيل المعرفي المجرد وليس التطبيق في الحياة والتعامل بين الأفراد؛ بينما الحقيقة أن الثقافة ليست حمل شهادة تخصصية, ولا قراءة مئات الكتب, ولا تقديم برنامج تلفزيوني, ولا نشر بضع مقالات أو عشرات أو حتى مئات منها في الوسائل الإعلامية. الثقافة هي أسلوب تعامل مجتمعي يقوم على تبادل المعرفة ويسوده احترام من تتعامل معه.
شاركت قبل سنوات في وفد المملكة لتقديم تقريرنا للجنة العالمية لمكافحة التمييز في جنييف وأسعدني أن وجدتهم يصغون بتركيز إلى الكلمات المعدة, ويقدمون مداخلاتهم وأسئلتهم في ما يتعلق بذلك, وحتى لو اختلفوا مع ما سمعوا لم تعل نبرة النقاش ولا سفهوا الرأي الآخر. ثقافة الحوار واحترام الآخر مصيرية وبدونها لا يمكن العمل كفريق يسعى لهدف بناء مشترك.
وقد لا تفاجئني الخطابية المنبرية والنبرة العالية الإقصائية والفوقية بقدر ما يفاجئني لدى البعض انعدام التطبيق لأدبيات الحوار, وأن البعض يصخب ويسمع صوته لآخرين دون أن يتيح لهم حق المساواة باستماعه لأصواتهم, منشغلا عنهم بحوارات جانبية. وبمجرد ما ينتهى من إلقاء مداخلات مطولة بصورة كلمات معدة مسبقاً تقدم مرئيات حددتها التيارات الأيديولوجية, ينصرف إلى حوارات جانبية مع من ابتلاه الحظ بالجلوس بجانبه يميناً أو يساراً. وبالتالي يحرم الآخرين من سماع المتكلم التالي بوضوح. وفي ذلك حكم ضمني مسبق ان رأي المتكلم الآخر لا يحمل نفس الوزن ولا يستحق ان يحترم بالإصغاء له.
وحين يكون الهدف من عقد المؤتمرات التخصصية هو نشر «ثقافة» الفريق فليس الأهم التمييز عبر الدرجات العلمية للمشاركين, ولا حتى قرب أو بعد طروحاتهم من الصحة العلمية: بل المهم هو تطبيق التعامل الحضاري تلقائيا حيث يقدم كل مشارك رأيه بهدوء ورزانة ويتوقع منه أيضاً أن يستمع مصغيا بهدوء وتركيز لآراء الأخرين فلربما تعلم منهم شيئاً.
حين نصل إلى هذا المستوى الحضاري بتميز نكون قد وصلنا إلى استيعاب معنى ثقافة الرقي والعمل معا كفريق قادر على التعاون والتكامل لتحقيق هدف مصيري مشترك بأهمية بناء وطن.