د. حسن بن فهد الهويمل
يتنازعُ من يُسَمُّون أنفسهم، أو يُسَمِّيهم الآخرون: بـ[الإسلامويين]، أو [الليبراليين] أهليةَ التلقي للخطاب التشريعي، وتفكيكه، متوسلين بنظريات:- [التأويل]، و[المصالح]، و[العقلية المادية].
وكل طائفة من أولئك تحكمها خلفياتها: المذهبية، والذهنية، وأنْساقُها الثقافية. ومن ثم تأتي القراءات مفتوحة على كل الاحتمالات، مبرمجة، وغير بريئة، وقابلة لإثارة العداوات، وتضليل الأفهام.
[ديكارت] الثائر المثير، تحت ضربات القراءات النمطية، أنشأ نظرية [الشك] التي لم تفهم على وجهها عند البعض، بحيث احتدم حولها الاختلاف، وتساقطت على سوحها، وحول أسوارها أفكار المختصمين صرعى كأنها أعجاز نخل خاوية.
ولما تزل تُرَاق على عتباتها أحبار كالأنهار. وفي ذروة الضجة خَلَفَتْ من بعدها [الظاهراتية] تمشي على استحياء، للتخفيف من وطأة الشقاق، ولتحجيم [الواقعية].
وهكذا صراعات الأفكار فعل عنيف، ورد فعل أعنف. ومرارات الصراعات يتجرعها من لاناقة لهم فيها، ولا جمل.
ما أمقته في عالم القراءات، والتداولات المبيتة ثلاث فئات نهاهم العليم الخبير، وتوعدهم على الإصرار:
- المنافقين.
- ومرضى القلوب.
- والمرجفين.
قال جل ذكره:- {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا}.
هذا الوعيد، والتهديد مرتبطان بمقترفات الإفضاء بمحصلة بالقراءات التآمرية، لأحوال المسلمين في المدينة:- {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. وهذه الآية مرتبطة بأخبار [سرايا الرسول]، وما يعتريها من نصر، وهزيمة.
ولهذا الثالوث ولمن شابههم من ضعفاء الإيمان من المسلمين خلفُ سوءٍ، يمارسون القراءة ذاتها، وقالة السوء عينها، ولا يزيدون أمتهم إلا خبالًا.
وسيان عندي المتدين العاطفي المتهور، والمتخلي المبتدع، أو المتذيل. وفي الذكر الحكيم:
{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. وفي الحديث: [هلك المتنطعون]، و[إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى]. و[السكينة السكينة]. ونوازل المصطلحات تشبه الأحداث المصيرية.
ثنائية الصراع بين الطائفتين: [الإسلاموية]، و[الليبرالية] لا تخلو من شيء قليل، أو كثير من سمات الفئات الثلاث التي حذرها الله.
فـ[الإسلامويون] الحركيون حسب مفهوم المُسَمَّى المتداول في الوسط الإعلامي، يجتاحهم العناد. والإصرار، والاستبداد، وشحنات الانفعال، وردود الأفعال. ويحملهم ذلك كله على توجيه التشريع على غير مراد المشرع، ومقاصده.
والله يقول:- {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. وخطر المتدين المبتدع، لايقل عن المتخلي المتعلمن.
مَرَدَةُ الفكر العلماني تَقَنَّعوا بصيغة [إسلاموي] ليضفوها على كل ما هو إسلامي، دون تفريق. وليجعلوا من هذا المصطلح المسكوك قناعًا يَتَوَقَّوْن فيه الاتهام بمواجهة ماهو إسلامي سلفي معتدل.
وهذه الحيلة تشبه [تقنع] مَرَدَةِ السياسة بمصطلح [الإرهاب] لمحاربة الإسلام حتى لا يتهموا بما هم واقعون فيه من حرب شرسة ضد العروبة والإسلام.
وفسحة الاختلاف التي هيأها الله للمارقين من الدين كـ[السهم يمرق من الرمية]، يصدون عنها صدودًا، ويتعمدون واحدية الرأي الأشد، لإكراه الناس على مرادهم، وتشويه الإسلام أمام الرأي العام العالمي.
ولو أنهم استبانوا رؤية الإسلام في أصل العلاقة بين دول العالم، لوجدوا أنه يقوم على [السِّلم] لا على [الحرب]. ولوجدوا أن [الكفر] لايشرعن للقتال، والعدوان، والقطيعة.
وكيف تتأتى المواجهة، والله اللطيف الخبير يندب رسوله:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.
وقوله:- [كلام الله] دليل على وجوب إبلاغ [الكلام]، وليس [المفهوم]. ويعزز هذا أمر البشير النذير:- [بلغوا عني ولو آية]، وكل ذلك خلوص من احلال النص الرديف محل النص الرئيس.
و[الآية] المبَلَّغةُ تحمل مفهومها معها، ولا يحمله الفاهم لها، وهذا يعني احتفاظ المَبلِّغ بمفهومه لذاته، بحيث لايكون الفهم الشخصي هو المُبَلِّغ.
نعم هناك اختلاف بين علماء الأمة حول المفاهيم، وهو اختلاف مشروع، متى لم يؤدِّ إلى التنازع، والإقصاء، والاستئثار بالمشاهد.
فـ[السِّلم] و[الحرب] يتنازعان في الأذهان الصدارة، بحيث يستأثر أحدهما بالأولوية في التعامل بين [دار الإسلام]، و[دار الكفر]، وهو اختلاف يجب أن يحكمه [فقه التمكين]. ومقاصد الإسلام السلمية التسامحية.
والاختلاف في أصله رحمة، ولا سيما أن أوضاع العالم اليوم تقتضي تغليب السلام على الحرب.
وعلماء الأمة حين يضطرهم الواقع إلى الجنوح إلى السلام، ثم يجدون من يرى ذلك، ويُغَلِّبهُ من سلف الأمة، يكون هذا الاختيار فاضلًا، وممكنًا.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل كلامه قطعي الثبوت، احتمالي الدلالة، ليتناسب في أحكامه مع تقلبات الأوضاع.
عهد [الرشيد] وسحابته التي لم تمطر، وعهد [المعتصم] الذي جيشته، وأجهشته صيحة امرأة في [عمورية] يختلفان عما نحن عليه. ولهذا لابد من التضلع من [فقه التمكين].
في راهننا لم نكن قادرين على [جهاد الطلب] ونحن مأمورون بالدعوة باللين:- {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
فلماذا ندع الأيسر إلى الأعسر، والرحمة المهداة ما خيُّر بين أمرين، إلا اختار أيسرهما.