اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إذا كانت عاصفة الحزم تمثل تجسيداً عملياً وإنجازاً نوعياً تجلّت من خلالهما سياسة القوة، فإن زيارة وزير خارجية المملكة المفاجئة إلى العراق تترجم نهجاً سياساً يبرهن قوة السياسة التي تنتهجها المملكة انطلاقاً من انتمائها القومي، وما تضطلع به من مسؤولية تجاه عمقها العربي وامتدادها الجيوبوليتيكي.
ورغم ما تواجهه المملكة من تهديدات أمنية، وتتعرض له من ضغوط خارجية خارجة عن إرادتها، فإن ذلك لم يشغلها عن هموم أمتها العربية، ولم يثنها عن دورها تجاه هذه الأمة التي تتنازعها التنظيمات الإرهابية والتدخلات الأجنبية والاستقطابات الإقليمية والدولية، إذ حذرت مراراً وتكراراً من أطماع النظام الإيراني الجيوسياسية في المنطقة ونزعته الصفوية وتطلعاته القومية التي اعتاد على تغليفها بالتشيع السياسي والتعصب المذهبي عبر مشروعه الطائفي الذي تغلغل عن طريقه في عدد من الدول العربية، مستفيداً من وكلائه وعملائه، ومتخذاً من اتفاقه مع القوى الكبرى حول ملفه النووي ومكافحة الإرهاب الذي يرعاه والأحداث التي تعصف بالمنطقة والشعارات الكاذبة والمزايدات والمراهنات الخائبة سبيلاً للوصول إلى أهدافه السياسية.
ومن المعروف أن العلاقات بين المملكة والعراق شهدت حالات من التوتر وموجات من عدم الاستقرار حيث تأرجحت بين المد والجزر عبر مراحل زمنية تخللها ما يشبه القطيعة بين البلدين، وذلك لأسباب يرتبط بعضها بأحداث تقادم عليها الزمن وبالتحديد الغزو العراقي للكويت وبعضهاالآخر يعود إلى ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وطبيعة النظام السياسي الجديد الذي ذهب بعيداً في الانسلاخ عن قوميته العربية مبالغاً في الانفتاح على إيران والتبعية المطلقة لها، تاركاً الحبل على الغارب لعدو العراق اللدود ليفسد في الأرض ويستبيح العرض على نحوٍ أصبحت معه الحالة الأمنية متسيِّبة والسيادة الوطنية مستلبة والهوية القومية مغيَّبة علاوة على جعل المنطقة بؤرة من بؤر الفتن والشرور وإدخالها في نفق الويل والثبور.
وغياب العرب عامة والمملكة خاصة عن الساحة العراقية فسح المجال أمام النظام الإيراني لتوسيع نفوذه في هذا البلد حتى وصل به الحال إلى ما يشبه الاحتلال، فضلاً عما نجم عن ذلك إعطاء الذرائع لعملاء إيران في داخل العراق للارتماء في أحضان ولاية الفقيه وتكوين تنظيمات طائفية مشبوهة ذات ولاءات إيرانية، وفي الوقت نفسه التجني على المملكة ومناصبتها العداء إرضاءًَ لملالي طهران مع إطلاق العنان للشحن الطائفي وكيل الاتهامات والأكاذيب التي توجه إلى الخارج لتغطية ممارسات الداخل، حيث بلغت الطائفية أوجها باستلطاف المكون الشيعي واستهداف المكون السني عن طريق التهميش والإقصاء تارة، وتصفية رموزه وقادته باسم قانون اجتثاث البعث تارة ثانية، ووصم المنتمين إلى هذا المكون بالإرهاب والقتل على الهوية تارة ثالثة.
وقد أفضت هذه الممارسات إلى تغليب الطائفية والمذهبية على المرجعية الثقافية والهوية الوطنية والقومية العربية، وبالتالي عزل العراق عن عمقه العربي وفصله عن انتمائه القومي بالإضافة إلى جعله مسرحاً للصراع والعنف الداخلي، وميداناً للإرهاب والتدخل الخارجي.
والهدف المحوري الذي تتمحور حوله أهداف الزيارة هو إعادة العراق إلى الحاضنة العربية وتخليصه من المصيدة الفارسية باعتبار هذا الهدف مطلباً ملحاً وضرورة حتمية لتحقيق بقية الأهداف التي يصعب الوصول إليها في غيابه، حيث إن ما أفسدته إيران، وتراكم مع الزمان يصعب إصلاحه بالتجاهل والنسيان أو تجاوز آثاره من خلال تغيير الألوان، بل لا مندوحة من إجراء المقاربات وتذليل الصعوبات في سبيل إيجاد الحلول الناجعة للمعضلات الكبيرة، وتخطَّي المشكلات الصغيرة بما يخدم المصالح المتبادلة ويدرأ الأخطار المشتركة.
وقد كانت الزيارة فرصة لا مناص من اقتناصها بعد أن أوصلتنا النزاعات الطائفية والمناكفات السياسية إلى الصراع فيما بيننا نيابة عن الأعداء، خاصة وأن الأحداث الجارية تؤكد لنا خطورة الأحداث التالية بصورة يتضح منها أننا نمر بمرحلة مصيرية تتعلق بالوجود والبقاء، وأن ما ينتظرنا من مخاطر يفوق المخاطر التي نعيشها بمراحل، واستمرار الحال على ما هو عليه سوف ينتج عنه نتائج وخيمة، ويؤول إلى مآلات أليمة، تدور دائرتها على الجميع إذا لم يتم تقدير الأمور حق قدرها ومعرفة ما لم يكن بما قد كان قبل أن تبلغ الماسأة نهايتها وتفقد المعرفة قيمتها.
والمملكة ومعها دول مجلس التعاون الخليجي تدرك تمام الإدراك أهمية العراق بالنسبة لأمنها القومي ومصالحها الوطنية العليا، كما أن العراق يعلم علم اليقين أن استقراره الوطني وأمنه القومي مرهون باستقرار وأمن الدول الخليجية، مما يحتم على الطرفين تحسين العلاقات البينية وإصلاح ما أفسدته الطائفية والنظم ذات الممارسات العبثية والنزوات الشخصية إذ إن استمرار الحال على ما هو عليه من النزاع والجفاء يضر بمصالح الجميع، ويجر المنطقة إلى مستقبل مجهول يتعاظم فيه الإرهاب ويزداد فيه العنف والاحتراب.