نشرت فيما سبق مقالاً بعنوان (مدارس بلا أسوار)، تناولت فيه ثورة التعليم الحديثة حول العالم، التي ترتكز على تقليص الفجوة العميقة بين المدرسة والعالم الخارجي، وتنادي بهدم الأسوار التي تفصل المنظومة التعليمية عن منظومة الحياة؛ وذلك لتحقيق تعليم هادف، يبني جيلاً تتعدى إمكانياته حدود قاعات الامتحان إلى التفاعل الإيجابي مع البيئة وحل مشكلاتها، وأخذ المجتمع إلى طريق التقدم والازدهار.
اجتاحت هذه الثورة معظم منظومات التعليم حول العالم، وتم تسخير الجهود والموارد للتوصل لأفضل الممارسات التربوية لتفعيلها، إلا أن القليل نجح في تحقيق أهدافها.. فلماذا تنجح أنظمة وتفشل أخرى في تحقيق تعليم هادف؟ في تفحص لمعظم الأنظمة التعليمية التي تعاني ضعف مخرجاتها تجد قياداتها تتبنى على الدوام فلسفات حديثة في التعليم، لكن دون التخلي أو إلغاء الفلسفات القديمة. هم حتى لا يستطيعون أن يتمسكوا بفلسفة تعليمية واحدة وقتًا كافيًا من الزمن؛ ليتأكدوا ما إذا كانت فعلاً مجدية. ربما هم يعتقدون بفكرة «الزيادة ولا النقصان»؛ فأصبحت عندهم الحلول لأي مشكلة هي بإضافة سياسات ومعايير أكثر، واستراتيجيات ومواد أكثر، وواجبات واختبارات أكثر في القوالب التقليدية ذاتها. هذا التضخم العشوائي المخيف تسبَّب بضغوط أكثر على الطلاب والمعلمين، وبعثرة لجهودهم، وقصور في أدوارهم الجوهرية.
وميداننا التعليمي يعج بشواهد هذا الخلل؛ ففي حين جاءت رؤية 2030 ببرنامج التحول الوطني الذي تبشر مبادراته بتحولات تعليمية، تتسق أهدافها مع ثورة التعليم الهادف، أطلقت وزارة التعليم استجابة لهذا التحول ما تسمى «المنظومة». هذه المنظومة تباينت وتعارضت معطياتها، وتجاهلت بيئات التعليم المتواضعة، فما كان منها إلا أن صرفت جهود كل منسوبي المدارس لتعبئة كم هائل من الورق والاستمارات والسجلات كدليل جودة «فورق أكثر يعني جودة أعلى». كما اختلت معايير تميز المعلم؛ فهي ليست في جودة أدائه داخل الصف واستكشاف مهارات الطلاب واستثمارها على أرض الواقع وتعزيز مشاركته في المسابقات الدولية العلمية.. بل التميز هو عندما يقوم معلم الكيمياء ذو الجدول المزدحم بالحصص بأعمال بعيدة كل البعد عن صلب تخصصه وأهداف مهنته، فعليه هو وطلابه تكريس جهودهم بإنتاج نشاطات وأعمال تتعلق بالخط العربي فيما يسمى «نشاط لا صفي»، التي يتم التخلص منها لاحقًا في أكوام القمامة. كما عليه أن يقيم دورات في تصميم الإنفوجرافك التي لا يتقنها، كما عليه أن يحيي إذاعات صباحية وبرامج ثقافية ودينية، وعليه أن يحرس باب المدرسة في أول النهار وآخره، وغيرها من الأعباء التي لا تتيح له الفرصة الكافية للتخطيط لمنهجه ولإجراءات عمليات التقويم التربوي التي هي عصب نجاح التعليم. وعند الوقوف على دور المعلم داخل الفصل نجد أن المنظومة اكتفت باستحداث استمارة ورقية، تحتوي على معايير وأساليب تدريس موحدة، يجب على كل من معلمي اللغة الإنجليزية والرياضيات والتربية الأسرية وكل التخصصات أن يلتزموا بها، بغض النظر عن الاختلافات الجذرية في طبيعة التخصص وأهدافه ومهاراته.. فلا أدري لماذا تقيم الجامعات حول العالم برامج تربوية لكل تخصص على حدة، وتقدم له مسارًا طويلاً من الدرجات العلمية؟
وعلى النقيض تمامًا نجد الأنظمة المتصدرة عالميًّا بقوة مخرجاتها التعليمية قد خضعت لتحول جذري حقيقي في قواعدها التعليمية وسياساتها وأنظمتها. وفي تحول النظام المدرسي الفنلندي الشامل قصة نجاح باتت تروى. هذا التحول الذي على أثره تصدرت مخرجات التعليم الفنلندية لسنوات عدة نتائج البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA). بدأت قصة النجاح هذه في الثمانينيات الميلادية عندما قررت فنلندا بناء على أبحاثها الخروج بأنظمتها التعليمية خارج إطار التيارات التعليمية المألوفة والسائدة من قِبل الدول المتقدمة، بما في ذلك المملكة المتحدة؛ إذ تجردت المنظومة الفنلندية من المنهج السائد آن ذاك « teaching to test «، وهو التدريس لأجل الاختبارات, واستبدلته بقوالب جديدة تعتمد على منهجية « learning to lean «، وهي منهج استقلالية المتعلم الذي يقوم على تدريب وتمكين الطالب من تحمل مسؤوليات تعلمه؛ إذ يكون التعلم المستقل أسلوب حياة يعيشه المتعلم داخل وخارج صفوف المدرسة؛ فتتكون لديه القدرة على مواصلة التعليم مدى الحياة عن طريق استثمار ما تعلمه في المدرسة في المواقف الحياتية عندما يتفاعل مع معطياتها، ويطرح الحلول ويقيمها. ولهذا الهدف خاضت فنلندا تغيرات جذرية في التعليم؛ إذ وجهت اهتمامها بالكيف والجودة بدل الكم؛ فكانت النتيجة ارتفاع كفاءة التعليم في ظل ورق أقل، يوم دراسي أقصر، سياسات واستراتيجيات أبسط، واجبات واختبارات أقل، مواد أقل، ضغوط والتزامات للمعلم والطالب تعد الأقل على مستوى العالم. تقول معلمة الرياضيات الأمريكية كيلي داي في إحدى مذكراتها عام 2105 التي كتبتها على أثر زيارتها لعدد من مدارس فنلندا لغرض بحثي: «فوجئت ببساطة التعليم الفنلندي؛ إذ كانت دروس الرياضيات تتم بأبسط الأساليب، ولم أجد أية أفكار مبتكرة أو إبداعية».
الجدير بالذكر أن المعلمين في فنلندا يعدون من أصحاب أرقى الوظائف على مستوى الدولة، ولا يحصل على وظيفة المعلم إلا الأكفاء من حملة الماجستير المدربين تدريبًا علميًّا احترافيًّا. ونظرًا لتلك الكفاءة فقد تم منح المعلم الفنلندي الثقة والحرية كافة داخل الصف لاختيار المنهج وأساليب التعليم التي تتناسب مع تخصصه وقدرات طلابه. أما الوقت الذي لا يقوم فيه المعلم بالتعليم فهو يستثمره في التقويم التربوي لمعالجة القصور وتطوير عملية التعلم، كما يعقد اجتماعات عصف ذهني وتبادل خبرات مع زملاء التخصص.
من جهة أخرى، رغم اعتماد النظام التعليمي الفنلندي على التقييم كأداة جوهرية لتعزيز تطوير الجودة التعليمية إلا أنها ألغت نظام المفتشين والمشرفين الخارجيين، وأقرت سياسة التقييم الذاتي من قِبل المعلمين والمدرسة. بشكل عام، المدرسة الفنلندية صححت دور المعلم الحقيقي، وقدمت للطالب بيئة هي امتداد للحياة الخارجية؛ فهناك أوقات ومساحات كثيرة من اللعب والمتعة للطلاب وممارسة جميع خبرات وألوان الحياة الطبيعية.
أما مدارسنا فهي منذ الأزل ما زالت تحتفظ بالقالب نفسه من الأسوار العالية التي يحكمها باب حديدي ضخم.. ولكُم أن تتخيلوا أن هذا الباب الوحيد - ولاسيما مدارس البنات - ما زال يغلق على منسوبات التعليم طوال النهار بأصفاد وأقفال، مفاتيحها في جيب رجل طاعن، يحرس الباب، في تناقض لمفاهيم التحضر، بل الأمن والسلامة. هناك في الداخل تختفي كل معالم الحياة وألوانها.
- رفيدة آل حمد