د. صالح بن سعد اللحيدان
تعتمد الذاكرة اللغوية - بعد توفيق الله جل وعلا - أول ما تعتمد عليه على صفاء الذهن وصفاء الفهم، وذلك في مراد دلالات الألفاظ على المعاني على استعداد في التلقي كذلك لمعرفة تنزيل الحكم على الواقعة من خلال فهم الدليل والتعليل.
من أجل هذا نشأت المعاجم اللغوية والمعاجم العلمية عبر أحايين مختلفة.
وإذا كانت هذه المعاجم تفسر معاني مفردات فإنها إنما تفعل ذلك لسبق الفهم لدى المصنف على فهم التفسير.
وليس هذا - حسب نظري - بخاضع للاجتهاد على حال ما لم يكن المعنى متعددًا؛ فهنا قد يخضع لبذل الرأي، ولكن بشدة توق وصدق حدس متين مع ما يرادف هذا من الشواهد والاعتبارات تلك الشواهد وتلك الاعتبارات من الحكمة والأمثال التي وردت في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة، أو أنها قد وردت في الشعر العربي قبل الإسلام أو بعده أو في صدره.
ولهذا أسس الإمام العيني صاحب (عمدة القارئ) شارح صحيح البخاري.. أسس لمعان كثيرة وردت في هذا السفر الجليل، وفعل هذا قبله الإمام ابن حجر في فتح الباري،
وكلاهما - حسب تتبعي - سارا على منهج لغوي ونحوي ثقيل، ودلالات شرعية على منهاج النووي، أو يقرب من ذلك شارح (صحيح مسلم)، وهو أقدم من الاثنين.
وأحسب أنني هنا لا أبعد عن الصواب، بل لعلي أقوله إن كثيرًا من دارسي اللغة وجل المؤلفين والباحثين المعاصرين في النحو واللغة ومسائل العلم الاجتهادية وقضايا دلالات الألفاظ على المعاني وضبط أسماء تقرب من 2500 موضع وعلم، جلهم.. لعلي لم أرهم يعولون على هذه الكتب الثلاثة التي قد ورد فيها من مسائل اللغة والنحو والبلاغة والعلم الاجتهادي ما ورد.
نعم، لقد عاينت سعد بن جنيدل ومحمود بن شاكر وأحمد بن شاكر ومحمود بن شيت خطاب وأحمد بن محمد باشميل.. قد عاينت من هؤلاء - وغيرهم قليل - اهتمامًا جدًّا، لكنه متقطع عدا ابن جنيدل الذي صنف سفرًا جيدًا عن الأماكن التي وردت في (صحيح البخاري) إلا أنه لم يؤصل المسألة، لكنه أجاد. رحم الله تعالى الجميع.
ومن هنا قد أنحو باللائمة على كثير من المؤتمرات والندوات العلمية واللغوية والثقافية أنها لا تعول على هذه الكتب، بل لم تخطر لهم على بال ظنًّا منهم أنها إنما هي في سياق سياسة العبادات فقط، بينما هي - الحق أقول - جمعت أشياء جليلة من العلم كمسائل اللغة الدقيقة وأسماء الأماكن من قرى ومدن ودول وملوك وشعراء وخطباء.. كما ترجمت لقرابة 5700 لعلماء منهم ما يقرب من مئة، جددوا في مجال اللغة وفي مجال الرواية وفي مجال الدراية، ولاسيما فقه النوازل في أزمنة مختلفة.
لقد أخذ الزمخشري وأبو حيان التوحيدي والنسفي والبيضاوي وابن عاشور وعبدالله دراز وابن سعدي كما أخذ أبو بكر ابن العربي كثيرًا من المعاني لكثير من الآثار عن البخاري ومسلم والترمذي، وكذا عن الإمام سعيد بن منصور المروزي صاحب السنن.
ولقد نهل ابن منظور والفيروز أبادي ومثلهما الجوهري.. أخذوا كثيرًا من معاني المفردات على الأماكن عنهم، وفعل هذا سيبويه في (الكتاب).
ولقد يظن الظان ظنًّا حسنًا أن النواوي والعيني وابن حجر وابن رجب إنما شرحوا أمور العبادات فانصرفوا يجمحون صوب مطولات اللغة ومعاجم الأمكنة، لكنهم لو تدبروا ما قام به هؤلاء الأربعة بجانب الإمام الكرماني لوقفوا على أن كبار العلماء من اللغويين والنحويين الشارحين وكذا من كتب في معاجم الأمكنة والأزمنة وسياسة الإدارة والطب والاجتماع قد نهلوا نهلاً، وأخذوا أخذًا من آثار البخاري ومسلم والترمذي وابن خزيمة. ولقد جرت عادة كثير من المتقدمين أن لا يذكروا من يعولون عليه من باب عموم الإشاعة، إشاعة العلم، وليسوا يهدفون إلى السطو لأسباب كثيرة، ليس هنا محل بيانها.
وان لأعجب العجب الكبير من المحققين في اللغة والنحو ومن المثقفين المهتمين بمثل هذا، وكذا في مسائل سياسة الإدارة العليا والاجتماع، أنهم لم يعودوا إلى مثل هذه المطولات التي ذكرت أصول العبادات والمعاملات، وكذا المواقع مع ما جرى منهم حول فقه النوازل.
وإنك لتعجب عند دقة السبر وتتبع الواقع الحي أن كثيرًا منهم في المؤتمرات، كمؤتمر أبها اللغوي وكذا المجمع العلمي في القاهرة والمجامع العلمية.. لتعجب أنه لا يذكرون هذه الأصول. فكم آمل على الأقل المرور عليها من باب الاطلاع على الشيء دون تركه.