د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
مضى الآن خمسةٌ وثمانون عاماً على محرقة الكتب التي أشعلها (النازيون) للتخلُّص من كتب أدباء ومفكرين ألمان، حيث شهدتْ (برلين) وعشرون مدينةً أخرى في العاشر من مايو عام 1933م واحدةً من أكبر عمليات (حرق الكتب) في تاريخ البشرية على يد (النازيين).
هذه المحرقة احتفل بها الألمان قبل خمسة أعوام لبلوغها الذكرى (الثمانين)، فنظَّموا لها مجموعةً من الأنشطة الثقافية التي تستحضر هذه الحادثة، وتقف على أهم محطاتها، وتدرس آثارها ومؤثراتها، وهي وإن كانتْ قد تركتْ آثاراً سلبيةً على الشعب الألماني خاصة والمثقفين عامة، إلا أنَّ الألمان يؤكدون للعالم بعد كلِّ هذه السنوات أنَّ هذه الحادثة استثنائيةٌ مرتبطةٌ بالحكم النازي، ولا علاقة لها بطبيعة الشعب الألماني الذي عُرف عنه حبُّ القراءة وعشق الكتاب، ولا أدلَّ على ذلك من احتضان (فرانكفورت) لأكبر وأبرز معرض للكتاب في أكتوبر من كل عام، هذا المعرض الذي يُعدُّ أكبر تظاهرةٍ دوليةٍ ثقافيةٍ تُعنى بالكتاب والأدب بصفة عامة.
ويبدو أنَّ ردَّة فعل الألمانيين على تلك المحرقة كان بالغ التطرُّف، فأضحوا مضرب المثل في حب القراءة، ولا يكاد يخلو بيتٌ من بيوتهم من مكتبةٍ شخصية، بل إنَّ كثيراً منهم يعد وجودها مكوناً أصيلاً من مكونات المنزل.
ولأنَّ القراءة إنتاج، فقد أضحتْ ألمانيا بلد الكتاب، إذ تنتمي إلى أكبر الأمم في إنتاج الكتب وإصدارها، حيث تُصدِر 100 كتاب جديد سنويا، وهذا يعكس النهم القرائي الذي لم يتأثر بتطور التقنية، ولا أدلَّ على ذلك من إقبالهم الشديد على معارض الكتب ومهرجانات الأدب، فلديهم أيضاً معرض (لايبزيغ) الذي ثبَّت أقدامه كمهرجان للقراءة الشعبية كل ربيع.
ولعلَّ من أهم أسباب تعلُّق الألمان بالكتاب: اهتمام الدولة بإنشاء المكتبات، والمحافظة على القديم منها، فهناك 2000 مكتبة شهيرة قديمة، وقد بلغ عدد مكتباتهم 17000 مكتبة، تتنوع بين عامة وجامعية وتابعة للكنائس والمتاحف والمدارس، وأخرى تابعة للولايات والمدن الكبيرة، إضافة إلى المكتبات المتخصصة في العلوم والآداب، وتضم هذه المكتبات أكثر من 125 مليون كتاب ووحدة وسائط معرفية، ومنذ القرن السادس عشر وهذه المكتبات تفتح أبوابها للجميع نشراً للعلم والمعرفة.
وقد امتدَّ الاهتمام بهذه المكتبات ليتجاوز ما تتضمنه من معارف إلى ما تتميز به من تصميم هندسي أخاذ، يحافظ في الغالب على طابعها المعماري القديم الذي يُعدُّ تحفةً بنائية، هذا عدا طريقة الخدمة المريحة والنظام المكتبي المتقدم، إضافةً إلى الهدوء الشديد الذي يخيم على هذه الأماكن المعرفية، والمقاعد الوثيرة الصحية المريحة.
وإذا عرفتَ هذا فاعلم أيضاً أنَّ ألمانيا من أكثر الدول ترجمةً للكتب في العالم، وستُدهش حين تعرف عدد الكتب المترجمة من معظم لغات العالم إلى الألمانية، وفي برلين وحدها أكثر من 5000 مترجم، ولو لم يكن هناك متلقٍ نهم يحتفي بهذه الترجمات لما بذلتْ دور النشر والجهات المسؤولة كل هذه الجهود المضنية والمكلفة.
وعلى مستوى دور النشر فلدى الألمان منظومةٌ فعالةٌ ومتنوعةٌ من دور النشر التي تسعى إلى تلبية احتياجات الجمهور، باحثين أو شغوفين بالمعرفة أو قراء من أجل المتعة، وبلغة الأرقام يكشف لنا (دليل المكتبات الألمانية) عن وجود 15000شركة يمكنها إصدار الكتب، وعن 2700 دار نشر فاعلة، وعن 22 مؤسسة نشر تتجاوز حجم مبيعاتها 50 مليون يورو سنويا، بينما يبلغ عدد مكتبات بيع الكتب 5000 مكتبة، وهناك 6000 شركة تعمل في تجارة الكتب، وتشجيعاً للإبداع والنشر خصَّص الألمان جائزة السلام لصناعة الكتاب، وهي جائزة سنوية لها تقديرها العالمي.
أما الأمر اللافت في صناعة الكتب في ألمانيا فهو أنَّ أسعارها ثابتة على الدوام، مما أدى إلى تحقيق التنوع فيما يصدر من كتب، وهو التنوع الذي لا يوجد له مثيل في أي دولة في العالم.
يأتي هذا العرض الموجز للتجربة الألمانية في الوقت الذي تشارف فيه أيام معرض الرياض الدولي للكتاب على الانتهاء، هذه الأيام العشر اليتيمة التي ينتظرها المجتمع كل عام بكل شوق، ويستقبلونها بكل احتفاء، إذ لا يرون من الجهود المؤسساتية ما يروي ظمأهم المعرفي غيرها!