د. إبراهيم بن محمد الشتوي
الإجابة الجديدة لدى هذه الجماعات تمثلت بـ«شعار» «تحكيم الشريعة الإسلامية»، «أو تطبيق الشريعة الإسلامية»، وأعتذر لوصفه «بالشعار» لأن هناك من يرى أن في هذا انتقاصا واتهاما لهم، ويرى أنه ليس شعارا، وإنما حقيقة، وبغض النظر عن هذه الجدلية، فإنني أقول «شعار» لأنني سأتحدث عنه بمستوى الشعار، ولن أغوص في البحث والتحليل إلى التطبيقات فأصل إلى رأي حول مسألة الشعار والحقيقة، فالمستوى الذي سيدور حوله حديثي هو مستوى الشعار.
وعلى الرغم أن هذا «الشعار»، يبعث التساؤل الشديد، وهل الشريعة الإسلامية غير مطبقة، أو محكمة؟ وإذا كان الحال كذلك، فما الذي يطبقه الناس في حياتهم الأولى قبل أن تظهر هذه الجماعات؟ على الرغم من هذا فإن أحداثا في التاريخ تشهد أن رفع شعار» تحكيم الشرعية الإسلامية»، لا يقصد منه حقيقة الأمر، ولكن يقصد به خديعة يحارب بها الخصوم، وقصة «التحكيم» التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما تشهد على ذلك، فالتحكيم جاء عن طريق معاوية وأصحابه حين رفعت المصاحف على رؤوس الأسنة، مما يعني الدعوة إلى تحكيم كتاب الله، مع أن الذي حدث بعد ذلك لم يكن متصلا بحكم شرعي، وإنما كان بحكم سياسي، وهو ما أغضب الخوارج، وجعلهم يرون أن الحكم لله وحده، وأن الرجال لا يفصلون في هذه المسألة.
وهو اعتراض لا يختلف عن موقف معاوية وفريقه، الذين مالوا إلى التحكيم، ولكنه لم يعمل بما فيه، مما أدى إلى خروج طائفة أخرى تدعي أنها أيضا تريد أن تحكم القرآن/الشريعة الإسلامية، وترى أن عليا وابن عباس لم يفعلوا ذلك.
والذي أريد أن أصل إليه من هذا أن الحديث عن «تطبيق الشريعة الإسلامية» لا يعني بالضرورة تطبيقها بناء على التجارب التاريخية السابقة، وإنما لا بد أن ننظر إلى الآلية المقترحة التي تتبعها هذه الجماعات لتقديم الإجابة السابقة على سؤال عصر النهضة السابق الذكر. هذه الآلية تتمثل بالبرنامج الذي تقدمه الجماعات للوصول إلى النتيجة المبتغاة، وتحقيق النهضة عن طريق الشريعة الإسلامية.
يربط بعض الباحثين بين بعض المقولات الموجودة في الفكر الإسلامي الحديث، ونظيرتها عند الأقدمين من أمثال ابن حنبل، وابن تيمية، والحقيقة أن وجود مثل هذه المقولات، والتشابه بينهما لا يعني أنها امتداد لها، وهو أقرب إلى -ما يسمى - بتأصيل الظواهر والأفكار بالبحث عما يماثلها من أفكار، وأقوال يربطونها بأقوالهم، وتمثل نوعا من الجذور التي تؤكد أهمية هذه الظاهرة الجديدة، أو شواهد تدعمها لكنها ليست هي بالضرورة، وهذا مثل البحث في أصول النقد الحديث عند القدماء، أو البحث عن أصول التربية، وعلم الاجتماع عند القدماء أيضا.
والفرق الجوهري بين المقولات الحديثة والمقولات القديمة، أن القديمة لم تكن مستقلة بنفسها، تنادي بتنفيذ كيان قائم عن الكيانات الأخرى، بناء على تلك المقولات، وإنما كانت تدور في سياق أكبر منها هو سياق المؤسسة الرسمية التي تمثلها الخلافة الإسلامية سواء في زمن ابن حنبل أو ما تلاه من أزمنة، فهي تتناول جانبا واحدا تدور حوله، وتتصل به، وتمثل مع الجوانب الأخرى الصورة الكلية للدولة الإسلامية، فهي في سياق اجتماعي، وتاريخي مختلف عن السياقات التي يراد أن توظفها فيها هذه الجماعات.
وحين نعود إلى الهدف من قيام تلك الجماعات وهي معالجة سؤال النهضة، نجده هدفا سياسيا بالدرجة الأولى. صحيح أنه يتصل بـ»المسلمين» بوصفهم قوما، لكن اتصاله بهذه الجماعة لا يعني شيئا بدليل أن من طرح السؤال في البداية لم يكن مسلما، والإجابات التي تتالت عليه لم تكن تنظر إلى هذه القومية بوصفها أداة لإجابة محددة.
هذا الهدف يختلف، وهو القضية المهمة، عن هدف النبي صلى الله عليه وسلم من قيام دعوته، التي كانت لنبذ الشرك، والدعوة إلى توحيد الله بالعبادة، ثم القيام بما يستلزمه ذلك من رفع الظلم، والقضاء على الفساد، وكان المشروع السياسي ثمرة لهذه الدعوة، ولم تكن هدفا في بداية الأمر.
وهذا ما لا نجده عند المشاريع التي تسعى منذ البدء إلى إزالة التخلف، والدفع إلى التقدم والنهضة.