تعدّ قضية الصدق والكذب من القضايا النقدية المهمة التي شغلت النقد العربي. وقد تباينت المواقف كثيراً حول هذه القضية (الصدق والكذب في الشعر)؛ فمنهم من جعل الكذب سبباً لرفض الشعراء، ومنهم من وقف حائراً إزاءها، ومنهم من اشتق طريقاً وسطاً. وحتى في النقد الحديث الذي أفاد كثيراً من تقدّم المعرفة النفسية والفنية والجمالية لم يكن للنقاد إزاءها كلمة واحدة، وهم على سبيل الإجمال ينقسمون إلى مذهبين، مذهب يرى أصحابه أن الشعر نتاج الشاعر الذي لا حدود لقدرته على الإنشاء والاختراع، وللشاعر تبعاً لذلك أن يعرض في شعره ما أوحى إليه خياله، وخيلته له نفسه، غير ملوم على شيء من ذلك؛ لأنه لا سلطان على إبداع الشاعر، ولا حق لمخلوق في أن يسم قوله بالصدق، أو الكذب؛ لأن الشعر تصوير لواقع العالم الخارجي، أو الداخلي، في نفس الشاعر، هذا بغض النظر عما يكون في النفس البشرية من إمارات السوء، مما يهدد قيم المجتمع، وتقاليده السائدة، وبنائه الفكري.
والمذهب الثاني لدى النقد الحديث يؤيد الفريق الأول في بعض رأيه؛ فيرى أن المعنى الحق الذي ينبغي أن يستمد منه الشاعر إنما هو نفسه، وعامله الداخلي، وأن الخلق الشعري ما هو إلا تصوير للنفس الشاعرة التي يمكن أن تنداح على سطحها موجات الانفعال بالمؤثرات الخارجية، بقوة أكبر بكثير مما عليه الأمر عند غير الشعراء.
مما لا شك فيه أن نقادنا الذين وصفوا الشعر بالكذب كانوا يحاولون أن يعيبوه من زاوية أخلاقية؛ لأنه يقوم على التمويه؛ فالشاعر فيه يتحدث عن أشياء لم تقع، وكأنها وقعت، ويهجو فيتزيد، ويمدح فيتزيد.. وحاول بعضهم أن يتظرف بقوله: إن مما يدل على فضل الشعر أن الناس يرونه جميلاً، وهم يعلمون أنه كذب، ويقبلون الكذب فيه، ولا يقبلونه في غيره. والذي يمكن أن نستنتجه من عرض النقاد لهذه القضية أن التأثيرات الأرسطية هي التي طبعت البحث في أمر التخييل والمحاكاة والصدق والكذب في الشعر بطوابع عقلية، سادت الموروث العربي؛ فنظروا إلى هذه القضية من خلال منظار عقلي، رأى الشعر عملاً تخييلياً، يتمّ تحت رعاية العقل، أو تخيلاً عقلياً، وأن الفلاسفة لم يقفوا طويلاً عند الشاعر بوصفه كائناً يتميز بقدرات تخيلية فائقة، ولم يتعرضوا للحديث عن ملكة التخيُّل عنده، أو قدرة هذه الملكة على جمع الأشياء، والتأليف بينها، بالقدر الذي كنّا نتمناه، فلم يركزوا كثيراً على سيكولوجية الإبداع، مثل اهتمامهم وتركيزهم على سيكولوجية التلقي.
ونرى أنه ليس من الصواب قبول المبالغة، وما يتصل بها على وجه الإطلاق، ولا رفضها كذلك، ولا تعميم القول بقبولها في حال الاعتدال، بل الصواب أن نقبل هذه الوجوه وسواها على أساس الصدق، فإذا لم تزيف الواقع، ولم تصور غير الواقع، ولم توهم بالباطل، كانت مقبولة، بل قد تكون دعامة الصدق الفني لتصوير المعنى، وإثارة الفكر والخيال، وتوصيل أعمق الحقائق إلى العقل والقلب، ولا نقصد هنا حصر المواقع التي يحسن فيها، أو التي تقبح، وإنما الإشارة العابرة لقضية ربما لن يتوقف القول فيها.
- د. طامي دغيليب