(إنه الرجل الأكثر أهمية الذي لم نسمع به قط)
-آلان غرينسبان-
عندما أمعنت نظري في صورة المهندس النعيمي التي تزيّن الغلاف أبحرت بعيداً وغصت في لجج الزمن وأنا أنظر إلى تقاسيم وجهه وتجاعيد العمر يعلوها ولم يبق من فتات الشعر إلا بياضه! وبعينين قد طال سهدهما تنظران إلى ماضٍ عريق كُتب بماء الذهب ومستقبل مشرق قد اطمأنتا إليه ! فوجدتُ فيها شخوصاً وأحداثاً تترجم سبعين ربيعاً من الجهد المظني والعمل الشاق المتواصل وجدت حكايات طويت في يم النسيان وحكايات مازال حديثها عالقاً في ذاكرة شيخ النفط وأسطورته، حينها أدركت لمَ ترك النعيمي صورته على الغلاف؟ وكأنها أحجية يريد من القارئ أن يفك رموزها! ذاك الصغير صاحب الجسم النحيل الذي تخترقه العين من أول نظرة كما كان يروي عن نفسه وصدق من قال - إن المرء بأصغريه لسانه وقلبه - وهو كذلك! بعد أن عركته الصحراء وعركها وهاجمته الظروف باكراً كالذئب المنتقم الذي قتله صغيراً مع أخيه وخاله ! وكأنه يرى صورته ماثلة كل ما صادف من عنت الحياة وقسوتها وكأنه يطلب نابه الذي سلبه منه ! وكنت اعتقد كغيري أنه ولد وفي فيه ملعقة من ذهب ! حتى إذا استرسلت في قراءة الكتاب تبين لي ما أخفاه الدهر فإذا أنا برجل أنموذج ومثال لكل طموح عُصامي قد شق الطريق وعبّده وسار فيه رغم المخاطر غير هيّاب ولا متردد ، هو رسالة لكل فتى لديه حلم الوصول بجد والارتقاء نحو المجد آخذاً بأسباب ذلك بعناية بعد التوكل على الله ، مارسَ التفاوض وهو بعد غر لم يبلغ الحلم وما إن استوى عوده وبلغ شرّة الشباب حتى تملّك خبرة رجل بمعدل عمره الحالي! فأصبح الخبير الذي لا يُشق له غبار حين تصل القلوب الحناجر على طاولة المفاوضات وحين يتعسر مخاض مشروع قد يفضي إلى طرق مسدودة! معارك النفط والاقتصاد ودروب أوبك الملتوية فوضى منظمة وامتحان ينجح فيها النعيمي كل مرة بنظرات ثاقبة لا تخطئ التقدير لأنها تعلمت وصُقلت سبعين سنة في دهاليز النفط والإدارة ! حين تقرأ له تدرك ذلك من خلال كل حدث وحكاية سطّرها في معاركه الاقتصادية فشعرت وأنا أقرأ أن سيرته كلها معركة حياة لا يكاد يلتقط أنفاسه فيها ضمن أطار عمر قد زيّنها برواز النجاح !
ثقافة العمل والأمانة وهبته ثقة الملوك التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم فلا تأتي إلا بعد تمحيص وسجل حافل بالانجازات يُشهد له بالأسبقية وهي ثقة دولة وقد حازها بإخلاص وتضحية فلم يأل جهداً في بذل المزيد من أجل بلده الذي هام فيه حباً وغراماً وبأبناء بلده ، وهذه علامة الوفاء التي يتصف بها قلّة نادرة كان هو أحدهم فما وجدتُ له حكاية عمل إلا وتكون الوطنية شعاراً ودثاراً يرفعه قبل كل شيء .
ودعت قلبي ساعة التوديعِ
وأطعت قلبي وهو غير مطيعِ
هكذا كان لسان النعيمي حين حانت ساعة التقاعد ولكن لكل شيء إذا ما تمّ نقصان فترجّلَ الفارس من صهوة جواده بعد عقود تتابعت وبعد أن أنهكته مباضع المفاوضات وحمّى العمل المتواصل فألقى رايته البيضاء وكأنه يردد قول معقّر البارقي:
ألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ
إليك أبا رامي كل التحايا والتقدير على ما أتحفتنا بسيرة ستظل نبراساً لأجيال تتوق إلى المجد والقمة لخدمة هذا الوطن الجميل .
- زياد السبيت