ياسر صالح البهيجان
الذات الإِنسانية تراوح بين الالتزام بالنص والخروج عنه، والنص ليس بمفهومه كمدونة دينية أو اجتماعية أو ثقافية، بل في تمثلاته السلوكية المتمظهرة في أفعال الفرد والجماعة، أو في طريقة استنطاقه وبعثه من الكتب إلى الحياة المعاشة بما تحمله تلك الحياة من ظرفية ونسقية قد توجه آليات تمثل النصوص.
النص المتعالي أياً كان مرجعيته ليس من الممكن تمثله تمثلا دقيقا في السلوك البشري، هي شبيهة بمفهوم المثل العليا لدى أفلاطون، وأقصى ما يستطيع المرء فعله إزاءها هو محاولة محاكاتها أو الدنو نحوها، أما مطابقتها مطابقة تامة فإنَّ ذلك مستحيلا، وتلك الاستحالة ليست ناتجة عن العجز الإِنساني، بل هي إحدى شروط المثل العليا إن أرادت أن تكون مُثُلا.
ما يميّز القيم الإِنسانية المشتركة الكامنة في النصوص المتعالية هي قبولها لتعددية تشكلها في الواقع وإن بدت متعالية عليه، أي أنها تتيح إمكانية تجاوز التكرار واجترار السلوكيات الماضوية، وذلك التجاوز سبيل لتحقيق مبدأ الفردانية لدى الإِنسان، ذاك الفرد المبدع والطامح في إعادة تدوين التاريخ، وهو تاريخ يظل منفتحًا على التجربة البشرية، ولا يكف عن الكتابة والمحو انطلاقًا من التحولات الجذرية التي تعتور مسيرة الحياة والإِنسانية.
القيم المتعالية ذات سمة لا نهائية تتجاوز الحدود الجغرافية والفضاءات المكانية، ومعضلتها الكبرى تتمثل في محاولة العقل البشري لأنسنتها ونفي وجودها خارج دائرة الممكن، ما يفضي إلى الحجر على مبدأ التعددية، لتستحيل تلك القيم إلى عادات جامدة وسلوكيات مجترة تعيد ما قاله التاريخ دون أن تستدرك ما فاته، وعندها تتعطل حركة التقدم ويصبح اللاحق عالة على سابقه، وبمعنى آخر يتخلى الإِنسان عن كونه إِنسانا، إِذْ إن قيمة الإِنسانية بديناميكيتها وقدراتها التوليدية والإنتاجية القائمة على مبدأ التراكم المعرفي المؤسس لطفرات استثنائية تثب بها المجتمعات نحو الحرية والتطور والرقي.
إن فهم الغاية من تعالي المثل في النصوص من شأنه حل أزمة أنسنتها، ومواجهة النظرة المتطرفة تجاهها التي تقصي الآخر لأنه لم يتمثلها على طريقة جماعة ما أو ثقافة محددة، فالغاية من تعاليها هي ترك الباب مشرعا أمام الاختلاف والتنوع في استحضارها كسلوكيات واقعية، وتعزيز فكرة قبول المختلف، وإنشاء بيئة للتحاور تحت مظلة إِنسانية تؤمن بأن لكل فرد حق الاستقلال بفكره واختياره، والقيم بهذا المفهوم تؤسس للتآخي الإِنساني بعيدا عن العنف والترهيب، وتمثل حصانة عقلية تتيح إمكانية أعمال الفكر الحر سواءً في مساءلة المنجز التراثي الكامن في بطون الكتب أو المعطيات الراهنة والمتجددة التي أفرزتها الحداثة الإِنسانية بأبعادها التكنولوجية والعولمية.