أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد اسْتَقْرَأتُ نصوصاً من شرع الله الْمُطَهَّر، ومن لُغَةِ العرب عن العلم واليقين: فظهر لِيْ أنَّ العلمَ واليقينَ لا يتفاوتان مِن ناحية الاعتقاد؛ وإِنما العلمُ عُلِمُ وجودِه ، وعِلْمُ كيفيته بالحسِّ؛ وأمَّا اليقين فيكون لكل معلومٍ؛ فالعالِمُ مُسْتَيْقِنٌ؛ لأنه عالِـمٌ بالحكْمِ من جهة وجودِه، وكيفيَّةِ وجودِه بعدما وُجِدَ (؛ وليس ذلك حالَ وجوده).. ولا يُقال: علمتُ يومَ القيامَةِ وأنت لم تَرَهُ بَعْدُ، ولَمْ تعْلَمْ كيفيتَه رؤيةً؛ وإنما يقولُ المُؤْمِنُ علمتُ بأحكامِ يومِ القيامةِ وصفاتِها بالوصفِ مِن دين ربِّي سبحانه وتعالى، وعلمتُ أنَّ يومَ القيامةِ واقِعٌ ولابُدَّ في الأجَلِ الذي حَدَّدَه الله؛ ولا نعلمُ الكيفيةَ إلا بعد المعاينة؛ وهذا مِن معاني نهيِ الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} (7 سورة آل عمران)؛ أي مآلَه بالرؤْيةِ؛ إذن لا تفاوت بين العلم واليقين؛ وإنما اليقينُ صفةٌ للمعلوم؛ والفارقُ بينهما أنَّ وسيلةَ العلم الحسُّ كالنظر والسمع والشم والذوق واللمس؛ وأما تفاوتُ اليقين فيكونُ لأحكامِ العقلِ من التجرِبةِ فاليقينُ إذن صفةُ العلمِ إذا استقرَّ في القلب عقيدةً؛ فاليقينُ عملٌ قلبي؛ وهو أحد أعمال القلوب الكثيرة؛ وإنما يرادُ به العملُ القلبيُّ المتعلق بالصدقِ والتحقُّق دون احتمالِ معاكسٍ.. ولقد ذكر الإمام ابنُ فارسٍ رحمه الله تعالى في كتابه (مقاييسُ اللغة): ((أنَّ الأصْلَ في يَقِنَ زوالُ الشَّك)).
قال أبو عبدالرحمن: وأضيف إلى ذلك أنَّ الأصل: زوالُ الشكِّ والاستقرارُ والصَّفاءُ؛ لأن كلَّ هذه الأمورِ مجتمعةً هي الأصلُ؛ فإنه يُقال يَقِنَ الماءُ؛ لأنَّ الأصلَ في يقِن الماءُ بمعنى استقرَّ صافياً؛ وكذلك ما يقِن في العلم فإنَّه مستقرٌّ فيه؛ ومعنى صفائه زوالُ الشك والاحتمالِ.. وفي قوله ربنا سبحانه وتعالى عن المؤمنين: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (4 سورة البقرة): جاء الخبرُ على صيغةِ اسمِ الفاعِل من أيقنَ.. والفرقُ بين يَقِنَ وأيقن من ناحيةِ صيغةِ فعِلَ وأفَعْل: أنَّ يقِنَ صار ذا يقينٍ سواءٌ أكان اضطرارياً أم اكتسابياً.. وأيقن حصل له اليقينُ باكتسابه؛ لأنَّ أفْعَلَ أدَلُّ على الفعل والحركة من فعِل؛ ولهذا كانت زيادة المبنى لزيادة الْمَعنى.
قال أبو عبدالرحمن: كُلُّ ما يُوْقَنُ به يَعُمُّ كُلَّ ما يتعلَّقُ بالآخرة؛ لأنَّ الآخرةَ ظرفٌ للجزاء والحساب والعرض والحوض والصراط والميزان والكوثر والجنة والنار، وكلِّ ما أخبر الله بوقوعه بعد الحياة الدنيا؛ وكذلك يعمُّ أيضاً أحوالَ القبر؛ لأنَّه من أحوال الآخرة؛ لأن من مات قامتْ قيامتُه، وعاين ما أعده الله له؛ فعموم ما يوقن به تابعٌ عمومَ ما يتعلق بالآخرة.
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أنَّ قوله سبحانه وتعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (4 سورة البقرة) تعريض بِمَنْ لا يوقِن بها؛ وهو يَعُمُّ الوثنِيّْيِيْنَ الذين يقولون: و(ما يهلكنا إلا الدهر) وهُمْ ينكرون البعثَ، ويعمُّ أهْلَ الكتاب الذين كذَّبوا ببعض أحوال الآخرة؛ فقالوا لايدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وكاليهود الذين ينكرون الآن أحوالَ الآخرةِ في كتبِهم المحرَّفَةِ المبدَّلة.. وعلى فرض أن الآيةَ تعريض بأهل الكتاب فقط دون الوثنيين: فلا يعني ذلك أنَّ الحكمَ خاصٌّ بهم؛ لأنه لا يمتنع في لغة العرب، ولغة الشرع: أنْ يكونَ مَطْلَبُ الحكمِ عاماً، وأنْ يكونَ التعريضُ بالخطاب خاصاً.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى، والله المُستعانُ.