لاحظت - كما لاحظ غيري - ظاهرة انتشار توزيع حاويات فائض الخبز في الأحياء السكنية بالعاصمة الرياض. وهذا عمل مشكور، يقوم به أصحاب المواشي لجمع فائض الخبز. ولكن الخبز طعام البشر وليس المواشي..!!!
هل زاد استهتارنا وإسرافنا للخبز بسبب وجود هذه الحاويات لرمي الفائض فيها دون أن نتذكر إخوانًا لنا بحالات إنسانية في دول مجاورة قريبة، لديهم مجاعة ومسغبة، تتمنى فيها الأم كسرة خبز؛ لتسد بها جوع أطفالها الذين لم يتذوقوا طعام الخبز لفترات تتجاوز أشهرًا؟!! كما رأينا في بعض مقاطع الفيديوهات المنتشرة عبر مواقع السوشيال ميديا: تجمع أطفال حول طفل آخر لديه قطعة خبز، حصل عليها من مساعدات. ومع أن أكياس الخبز التي نرميها في حاويات الخبز أفضل حالاً بكثير من تلك الكسرة من الخبز بيد ذلك الطفل..!! إلا أنه قام بتقاسمها مع أقارنه؛ ليسد بها مرارة جوعهم وجوعه.
لا أعلم إذا كان ما لاحظتُ عبارة عن ظاهرة بدأت تنتشر وتتزايد مع انتشار الحاويات، أم أن الموضوع قديم، وهذه الحاويات أظهرت لنا جليًّا كمية الخبز المهدرة؟ بل هي حالة تكشف عدم وعي بعض الناس بقيمة هذه النعمة بين أيدينا. وفي الحالتين هو أمر يعبّر عن حالة من البذخ والإسراف غير المبررة المنهي عنها شرعًا وقيمًا وسلوكًا.
لو وقفنا قليلاً عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسرف ولو كنت على نهر جار» لفكرنا قليلاً بالمبالغ التي تدفعها الدولة لدعم الدقيق، وتلك الصفقات المليونية لتوفير الدقيق لنا، بينما يُحرم منه إخوان لنا على الطرف الآخر في دول جوار. لا ريب أنه ستظهر حالة من الهستيريا تصيب العقل إذا ما دمجنا صور الجوع وصور البذخ. والمؤسف حقًّا من هذا كله أن نعمة الله - ليست فقط الخبز - التي يجب أن نحافظ عليها نجدنا نتعامل معها كقطعة مكملة ومزينة للأطباق، حتى وإن لم نحتَجْ إليها.
جميعنا يعرف تلك الآيات التي ترفض الإسراف وصور التبذير في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}، وقوله تعالى: {... وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
إذًا، لماذا لا نستهلك مقدار حاجتنا فقط من الخبز؟!
لماذا نصر على شراء كميات كبيرة فائضة، ونستهلك كمية قليلة؛ ويكون مصير المتبقي هو حاوية الخبز؟!!
إذا كانت حاجتنا للخبز في وجبتنا فقط رغيفًا واحدًا أو اثنين فلماذا نشتري ما يزيد على الحاجة..؟ المسألة - يا سادة - ليست إنفاق ريال أو ريالين، بل هي شيء أكبر من ذلك؛ إذ إن المسألة تتعلق بالحفاظ على نعمة (الخبز)، وعدم هدرها بصورة إسرافية!
فلماذا لا نشتري خبزًا بقدر حاجتنا الأسرية؟ أو نستعمل الفائض في وجبة أخرى في الغد بدلاً من رمي الفائض في الحاويات المخصصة لبقايا الخبز؟!
نعم، لماذا لا نحفظ باقي الخبز في الثلاجة المخصصة، ونقوم بتسخينه وقت الحاجة؟ لماذا لا نعيد استخدام «الخبز» إذا ما استعملناه مثلاً في سلطة الفتوش، أو مع بعض أنواع الشوربات التي تُستخدم معها فتات خبز.. وهكذا؟
بالتأكيد لن يكون هناك رفع لمستوى الوعي للمجتمع والحفاظ على نعمة الخبز وغيرها من النعم.. إلا بتوعية الأسرة التي تُعد من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تغرس قيم الوعي الاستهلاكي وتأصيل ثقافة حفظ النعمة.. وبالتالي انعكاس هذه القيم الحضارية الأخلاقية على منظومة البناء الاجتماعية (المجتمع) بشكل عام.
وأخيرًا وليس آخرًا، إنَّ شكر الله على نعمه ليس فقط بالأقوال؛ بل بالأفعال والأحوال.. فالحفاظ على النعمة عبادة؛ يجب أن نغرسها في نفوس ووجدان أطفالنا؛ لتصبح عادة وممارسة وسلوكًا حضاريًّا في حياتهم الاجتماعية. والله المستعان.