إن من الأمور التي يتفق عليها كثير من العقلاء هو أهمية إعادة قراءة الفتاوى لا لكونها خاطئة بشكل كامل ولكن لأنها تمت في درجة وعي مجتمعي تختلف عما هي عليه درجة الوعي الحالية ولا أريد أن أعدد مجموعة الفتاوى التي كانت فيما مضى من المحرمات ثم هي الآن تمارس وأحيانا من نفس محرميها السابقين وبدرجة من الاستحلال البيّن. ومن ضمن ما ينبغي مراجعته من ضمن تلك القضايا؛ قضية القدر. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه في مجموع الفتاوى عن الشيخ عبدالقادر -يقصد الجيلاني- أنه قال: إن كثيرا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق. وهذا ما نقصده ونؤمله أن يخرج لنا أمثال هؤلاء ليبينوا للناس كثيرا من المتعلقات بالقدر ولا يتصورونه فقط ويصورونه بأنه ضربة لازب لا استدارك معه ولا مفر وأن الناس فيه يكونون كما الريشة تتقاذفها الريح ذات اليمين وذات الشمال فأصبح كما الشماعة يعلق عليها كثير من الناس العثرات والإخفاقات وليس ذلك وحسب بل وحتى التهاون والتقصير. وكي نحاول الاقتراب من فهم المسألة القدرية علينا بأن ندرك ابتداءً بأن الله سبحانه وتعالى ذو علم قديم وكتابه سابق وفصّل كل شيء فيه تفصيلا وأنه يعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن لو كان كيف سيكون وكما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله بأن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى خالق كل شي وربه ومليكه لا رب غيره ولا خالق سواه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم. وأن تقديره يأتي بمعنى:تقديرها في نفسه وعلمه بها وخبره عنها وكتابته لها. ومما لا شك فيه أيضا أن كل ذلك يجري وفق مقتضيات حكمة الرب سبحانه وتعالى والتي قد تخفى علينا في وجه من الأوجه.
ولنستبين أننا مساهمون بشكل أو بأخر بأقدارنا فتذكر كم مرة من المرات كانت لديك أفكار وظنون سوداوية فكرت بها وما لبثت أن وقعت كما كنت تفكر فيها بالضبط إنني أرى أن في هذا ما يجعلنا نطمئن إلى أننا مساهمون في صنع أقدارنا بشكل ما ربما نجهله ولكننا متيقنون بأنه يعمل بهذه الصورة. وإذا كان أسوأ أفكارنا السوداوية تقع وتتجسد في الواقع المعاش يحق لنا أن نتساءل ما الذي جعل الأمر يسير بهذا الشكل؟ وكما هو يقول المفكر فاديم زيلاند بأن الأمر مرتبط بأفكارك والتي هي تساهم وتشكل قدرك. ولذلك طرح في نظريته الترانسيرفنع إحدى المسلمات المهمة والتي تنص على أن بثّ طاقة الأفكار يدفع بتحقيق الاحتمال/ المتوقع وأنه إذا تحققت الوحدة بين العقل والروح تحققت أسوأ انتظاراتنا وطبعا العكس بالعكس فيما يخص الأشياء الإيجابية والجميلة فلها نفس احتمالية التحقق. ولذلك نجد في تراثنا الإسلامي ذلك الحديث القدسي الذي يعبر عن فكرة مساهمتنا بصنع أقدارنا فقد قال الله تعالى:(أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). فكيفما هي ظنونك أيها الإنسان تكن أنت فإن ظنيت به خيرا وجدت الخير وإن ظنيت به غير ذلك وجدت ما ظننته/ بثثته فيه وخلف كل تلك العبارة -أنا عند ظن عبدي بي- أقرأ ما يحثنا على ضبط أفكارنا وأن نراقبها وننتبه لها ذلك أنك من خلال أفكارك أنت توجه واقعك -بإذن الله -إلى حيث تريد أي أنك بذلك تساهم بصناعة أقدارك.
وإني لأعجب والله من نص ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في مجموع فتاواه حيث قال: وعند وجود: (القدرة التامة والإرادة الجازمة) فإنه يجب وجود المقدور. وهذا النص يؤكد لنا أنه كيفما تفكر وتعتقد يتحقق ويتجلى فراقب أفكارك واشحذ همة مراقبك الداخلي ولا تسمح لأن تكون ضحية للآخرين واستيقظ فلربما كنت في سبات عميق وأنت تظن أنك في صحوة مباركة. ومما يمكن أن نطرحه في هذا المقال هذا السؤال: هل القدر يعمل كنظام تفاعلي مع مجموعة نواياك وأفكارك ومشاعرك؟ والذي يظهر لي في هذه المرحلة بأنه كذلك ولعلي أسوق ثلاثة أدلة توضح تلك التفاعلية:
أولا: ما جاء في الحديث الصحيح (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) فمسألتي الرزق والعمر يمكن أن يزدادان للواحد منا إذا فعل/ فعّل صلة الرحم كما ولشراح الأحاديث تعاليق كثيرة حول ذلك.
ثانيا: مقولة عمر بن الخطاب فاروق هذه الأمة رضي الله عنه حيث قال:اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
والدليل الثالث: ما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم في زيارته لأحد المرضى حيث قال له رسول الله: لا بأس طهور إن شاء الله فاعترض الرجل بلغة مليئة بفكر ومشاعر التعجب والاستنكار قائلا(طهور)! كلا بل هي حمى تفور أو تثور على شيخ كبير تزيره القبور فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذا. وإذا قمنا بتحليل وتفكيك بنية هذا النص سنجد النموذج الكامن فيه كالتالي: (حمى - شيخ كبير - قبر) هو التصور الذهني/ الفكرة الذي كان يحمله هذا الرجل عن حالته وليس ذلك وحسب بل وتحولت من تصور ذهني إلى كلمات منطوقات فما كان لهذه الفكرة إلا وأن تتجسد في الواقع المادي المحسوس وهنا يتبين لنا مقدار التفاعل بين نظام القدر ونظام الأفكار المدفونة في أعماقنا والكلمات المنطوقة من أفواهنا. وفي أهمية التواصل القدري يقول المستشار محمد الدحيم: الخيارات الواسعة التي تتعامل معها تجعلك منفتحا على كل الاحتمالات وهذا ما يجعل تواصلك القدري أكثر يقظة وأعمق وعيا (كل شيء ممكن). وأخيرا أختم بكلام جميل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ قال: ويكفي العاقل أن يعلم أن الله عزَّ وجلَّ عليم حكيم رحيم؛ بهرت الألباب حكمته ووسعت كل شيء رحمته وأحاط بكل شيء علمه وأحصاه لوحه وقلمه وإن لله تعالى في قدره سرا مصونا وعلما مخزونا احترز به دون جميع خلقه واستأثر به على جميع بريته.