د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أحاديث المجتمع لا تخلو أبداً من تناول الممارسات الطبية بشيء من النقد أو الاستنكار، إذا تجاوزت التصور الغالب عند الناس عن تميز ممارسي مهنة الطب بالعلم والأخلاق والمصداقية. وهذه المميزات هي بالضبط ما يجب أن تكون الجمعيات الطبية حارساً عليه. وقبل الحديث عن دور الجمعيات الطبية في تطوير المهنة وممارساتها ومدى فاعلية أدائها، لا بدّ من التنويه بأنها ليست جمعيات خيرية، وإنما هي جمعيات علمية إذا صدرت الموافقة على إنشائها من الجامعات أو مهنية إذا وافقت على إنشائها الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وفي الواقع كلها جمعيات علمية مهنية تشترك في ممارسة المهام نفسها بحسب اللوائح التي صدرت بتنظيمها. وهذه المهام باختصار هي:
- تطوير الفكر المهني وممارسات التخصص.
- رفع مستوى العاملين في مجال التخصص بالتدريب ووضع قواعد ومعايير الممارسة.
- العمل على تعزيز التواصل وتبادل الأفكار والإنتاج العلمي بين منسوبي التخصص.
- عقد المؤتمرات والندوات العلمية وإجراء البحوث.
- تقديم المشورة الفنية للجهات الصحية.
- تثقيف المجتمع ضمن مجال التخصص.
هذه المهام الجليلة تعمل على أربعة محاور:
أولاً: التخصص الطبي نفسه: من خلال ما تقوم به الجمعية من متابعة المستجدات والاكتشافات العلمية والتقنية في مجال التخصص عبر قنوات متعددة مثل حضور المؤتمرات العلمية وما تنشره الدوريات العلمية من أبحاث وما تعرضه الشركات من أدوية وأجهزة حديثة، ومن الاطلاع على الممارسات المهنية المتطورة في بلدان متقدمة، وما تقرّره الجمعية من قواعد مهنية وأخلاقية للممارسات الطبية في مجال تخصصها، وما تكشفه وتحاربه من ممارسات تسيء للتخصص.
ثانياً: المنتسبون لهذا التخصص: من خلال عقد اللقاءات والندوات المتعددة، وتنظيم الدورات التدريبية، وتشجيع المشاركة في المناقشات والنشاطات العلمية داخل وخارج أماكن عملهم وفي اجتماعات الجمعية، وذلك لتعزيز الانتماء المهني ومتابعة التطورات والمعلومات المستجدة.
ثالثاً: مؤسسات الخدمات الصحية: تقديم المشورة الفنية والرأي العلمي في مجالات تخصصها. وذلك يُحتّم على الجمعية التواصل مع تلك المؤسسات، وإبراز الفعاليات والمبادرات الإيجابية التي تقوم بها الجمعية من بحوث ولقاءات علمية تعالج المشكلات الصحية وإيصال نتائجها ومناقشة تطبيقها مع المسؤولين، والعمل على كسب ثقة المؤسسات بالكفاءات التي تتميّز بها الجمعية وجدوى استشارتها وتكليفها بإجراء دراسات تعالج قضايا صحية.
رابعاً: المجتمع: ليس لأغلب الجمعيات الطبية نشاط يمتد في الفضاء الاجتماعي، على نحو ما تقوم به الجمعيات الصحية الخيرية المتخصصة التي تتميّز بعوامل منها:
- وفرة مواردها المالية، حيث تستفيد من الزكوات والصدقات والتبرعات، وإعانة الدولة.
- أن رئاستها تناط بشخصيات مؤثّرة ومعروفة.
- يتوافر لدى الناشطين فيها الدافع الديني أو الإنساني أو كلاهما، ويشارك في أنشطتها العديد ممّن لا ينتمون لتخصصها.
- بسبب قدرتها المالية تمارس أنشطة داعمة لهدفها الإنساني، مثل الأبحاث وغيرها.
الأنشطة التي تمارسها الجمعيات الخيرية لا تغني عن الدور الاجتماعي للجمعيات الطبية الذي ينتظر منها أن تؤدّيه متضافراً مع دورها المهني والعلمي، فهي تجمع الكفاءات المتخصصة بكثافة وبانتشار في طول البلاد وعرضها، وأعضاؤها هم الذين يستقبلون ويعالجون المرضى ويدركون معاناتهم في بحثهم عن الشفاء، ويصل إلى علمهم من المرضى أو غيرهم ما يُرتكَب من أخطاء طبية أو ممارسات تجارية غير أخلاقية، فوصول الجمعيات الطبية للمجتمع والمدارس والمسؤولين ووسائل الإعلام مُتيسّر، ولذا فهي تستطيع أن تقوم بأنشطة مهمة وفعّالة مثل:
- التوعية بضرورة الفحص المبكر لاكتشاف بعض الأمراض في وقت مبكر مثل سرطان الثدي أو السكري أو التسوُس، وغيرها.
- توعية المجتمع بشأن الأضرار الصحية الناتجة من بعض سلوكياتنا مثل الإفراط أو عدم التوازن في الأكل، وقلّة الحركة، والإدمان على استخدام وسائل التواصل الإلكترونية، أو اللهاث من دون تبصّر وراء عقاقير أو علاجات يدّعيها تجار الطب وقد تنتهى بنتائج كارثية.
- توجيه وتدريب الأمهات على الرعاية التمريضية لأطفالهن المرضى في المنزل، من حيث تناول العلاج وأسلوب التعامل - وفق تعليمات الأطباء.
- تشجيع المشاركة المجتمعية من خلال تدريب أفراد المجتمع على إسعاف الحالات الطارئة والتعامل مع الحوادث المنزلية ومساعدة المعاقين، وإثارة التفاعل مع إجراءات درء المخاطر الصحية.
- دراسة المشكلات الصحية - حسب تخصص الجمعية - في أوساط المجتمع من حيث انتشارها وأسبابها، وتوافر الوسائل لمكافحتها وعلاجها.
لكنْ في الواقع يرى كثير من الناشطين في الجمعيات أنه لا يوجد تأثير فعلي لها - باستثناءات قليلة - على الممارسات الطبية، وأن هناك أسباباً تحول دون قيامها بأدوارها، ومنها:
1- لا توجد علاقة مؤسسية بين الجهات الرسمية (صحية وغير صحية) وبين الجمعيات الطبية (كمنظمات مجتمع مدني)، أو تأطير نظامي يوجد مثل هذه العلاقة ويمنح الجمعيات ثِقلاً مهنياً وقانونياً معترفاً به، ويدفع تلك الجهات إلى طلب مشورتها وأخذ تقاريرها وتوصياتها بجديّه، فهي في الوقت الحاضر بلا سند قانوني، أو بتعبير زميل مجرّب: (بلا أسنان).
2- ضعف موارد الجمعيات يحول دون ممارستها لأنشطة عديدة - علمية ومهنية ومجتمعية.
3- انقسام جمعيات بالتخصص نفسه بين مرخص لها إما من هيئة التخصصات الصحية وإما من الجامعات يجلب الهزال لكيانها ويضعف قدراتها.
4- يتركز العمل الإشرافي والتنظيمي في مجلس الإدارة المكوّن من أعضاء متطوعين غير متفرغين، وربما منشغلين بأكثر من عمل، وتتباعد الجلسات إذا كانوا من مناطق عدة.
5- تشكيل مجلس الإدارة يتمّ من خلال انتخاب الجمعية العمومية لمن يرشح نفسه من بين الأعضاء المشتركين في الجمعية الطبية الممارسين لتخصصها، ويفوز من يحظى بأكبر دعم دعائي أو شخصي أو مناطقي، ممّا لا يسمح باختيار أفضل الكفاءات لتحقيق هدف الجمعية في الرقيّ بمستوى المهنة ورعاية المرضى، حيث إنها ليست نقابة تهدف لرعاية مصالح الأعضاء. لذلك فإن الأصح هو أن تقوم جهات العمل - العام والخاص والأكاديمي - وفق معايير علمية ومهنية بترشيح الأنسب من منسوبيها المشتركين في الجمعية، ثُمّ من مجموع المرشحين تنتخب الجمعية العمومية أعضاء مجلس الإدارة.
من المؤكد أن جمعياتنا الطبية من دون معالجة أسباب القصور السالف ذكرها ستظلّ بلا أسنان.