رمضان جريدي العنزي
الحكواتي شخصية شعبية ضاربة في القدم، وظيفته سرد القصص، في القديم يتمركز في المقاهي والزوايا والزواريب، يسرد بصدق وأمانة وضمير وواقعية، غالبًا ما تكون قصصه عن شخصيات تاريخية، تدور كلها عن البطولة والشجاعة والشرف والمروءة ونصرة المظلوم، في القديم يلبس الحكواتي الطربوش أو العمة، ومعه كتاب وعصا وفانوس.
الآن صارت وظيفة الحكواتي في المناسبات والحفلات والتجمعات العامة والخاصة، متخذًا من لسانه مصدر رزق ولهو وتسلية، يخترع الحكايا ويلفق القصص والروايات، حكواتي الآن، يلبس الثوب، ويعتمر على رأسه الغترة والعقال، ومعه سبحة يأخذها من جليسه، أو ربما عصا رقيقة بها أثر قدم وعوج، يجيد استعمال الصوت والحركة والتمثيل والإيحاء، قصصه وأحاديثه تركز دائمًا على التشويق المنبعث من خلفية تلفيقية تركيبية، غالبًا ما يعطي شعوراً عند المتلقي بأنه يبطن غير ما يظهر، ثقافة الحكواتي الآن ثقافة خواء مبنية على اصطناع ملفت، واختراع مذهل، وابتكار واهن، عاطفته مبنية على وعي قاصر، وفكره ضيق، وتجويف دماغه يملؤه الضعف البائن، يسعى لهدف نحو تحقيق المأمول الذي يخالج نفسه، عندما يحكي يظن نفسه بأنه يأسر القلوب، ويخطف الأنفاس، ويوقف عقارب الوقت، وأنه أنيس السهرات، والراوي الفلتة، والشخص المطلوب، وصاحب الجمهور، العوام وحدهم ينجذبون له ويصغون له بخدر، يهزون له الرؤوس إعجاباً، ويوافقونه على كل شاردة وواردة، يحاول السيطرة عليهم بتنميق المفردة، والمبالغة في التصوير ورفع اليد والصوت، له خبرة ومهارة في صنع «الفلاشات»، يتوقف عنوةً حين السرد لتشويق العوام شوقًا وشغفًا لمعرفة التفاصيل وبقية «الحبكة» التي يريد أن ينهيها حسب مراده وخياله ومبتغاه، لا حسب الواقع والحقيقة، يحاول أن يستفيد من كامل مساحة الوقت الذي يأخذه قصدًا وعنوة، وفق سرد فج وممل ومتكرر، يفكر بحبك اللعبة ما أمكنه ذكاؤه، يحاول أن يقدم عرضًا روائيًا رائعًا، منذ البدء في لحظة السرد، يتقمص الشخصية التي يؤديها، يحاول أن يكون أداءه أكثر متعة وإذهالًا، لا يخشى أن يكون مضحكًا أو هزليًا، فإضحاك المتلقي عنده غاية من غاياته، ومسلمة من مسلماته، وهدف من أهدافه، حتى ولو كان ضمن سرد سامج، أو رواية تلفيقية كاذبة، أو قصيدة ركيكة يعتليها الضعف والوهن، المهم عنده أن يعجب بطرحه العوام، أو شبه العوام، ويصفقون له، ويهزون له الرؤوس بالإعجاب والموافقة، سيما وأنه المؤلف والراوي والمخرج وواضع السيناريو والمقدم والممثل، وهو الذي يفتح الستار، ويسدل الستار، يحاول باستماتة فائقة أن ينجح في خطف الأضواء، والفوز بالألقاب والبشت والهدايا والإشادات، متناقض، لا يفرق بين الحكاية الصحيحة والخرافة، يبرع في تلوين الصوت والصورة حسب الموقف والمناسبة والأشخاص المتواجدين، يزيف الحقائق جزئيًا أو كلًا، ويحاول أن يخلق روايات وأحداث جديدة، بنية وقصد الخداع، لتحقيق هدف معين يبتغيه، قد يكون مادياً أو نفسياً أو اجتماعيًا، يسخّر قدراته الذهنية ومنطقه وتبريراته وخيالاته لأهدافه الأنانية والذاتية الضيقة، لا يهمه أن يتملق أو يداهن أو ينافق من أجل الكسب والمنفعة، ما عنده ضمير كي يؤنبه، ولا يفرق بين المجاملة والوقاحة، انتهازي يمنح لمخيلته السردية عنان طويل، مغامر بغير عقل، ويحاول أن يقحم نفسه في تجارب بطولية، بعيداً عن منجزه الواهن الحقيقي، رواياته تقوم على عملقة النفس، وتقزيم الآخر، وفق لغة احترافية غير لائقة، يتخذ من القصور الفهمي والثقافي للأشخاص العوام، وشبه العوام الذين حوله طريقاً لإبراز ذاته، قد ينجح حكواتي المناسبات والحفلات والنزهات والتجمعات وقتياً، لكن جذره لن يبقى عميقًا ولا صلبًا على أرض الحقيقة والواقع.