د. محمد عبدالله العوين
قبل أن أدلف إلى معرض الكتاب وقفت متأملا طوابير الزائرين وإجراءات التفتيش السهلة الميسرة وبشاشة المنظمين، وكانت السماء ملبدة بالغيوم، ونسمة ربيعية تصافح الوجوه، ورذاذ مطر خفيف يبعث على نشوة خفية متحفزة، وقفت في الساحة الواسعة النظيفة قبل باب الدخول مشدودا إلى ذكريات ماض بعيد عبر وفات واندثر، ودارت في ذاكرتي تلك الصور القديمة لأول معرض للكتاب في الرياض قبل تسعة وثلاثين عاما في دار الكتب الوطنية بشارع الوزير، وكانت الدار التابعة لوزارة المعارف تضم مكتبة ضخمة لا يستغني عنها طالب علم، ويلجأ إليها الباحثون وغيرهم، وبخاصة من كليتي الشريعة واللغة الواقعتين في جنوب الشارع مقابل مسجد العيد، وأتذكر كيف كنت أستغل وقت الاستراحة الطويلة المتاح بين المحاضرات وأسرع عابرا الرصيف الأيسر الطويل من شارع الوزير متجها من الكلية إلى المكتبة ومارا بعشرات المحلات التي تبيع الأقمشة الفاخرة للرجال وللنساء؛ حيث كان ذلك الشارع مقصد الأغنياء والطبقات المترفة، ومارا أيضا بمطاعم ومخابز وعمارات تضم عشرات الشقق التي كان يسكنها في الغالب أطباء وأساتذة جامعات ورجال أعمال من الشام ومصر وغيرهما، لم يكن الشارع مقصدا لتبضع الطبقة الغنية فحسب؛ بل كان وشارع «الثميري» الصغير المتفرع منه متنفسا للشبان المراهقين الذين لا ينفكون غادين ورائحين على سياراتهم حينا أو مشيا على أقدامهم؛ وكأنهم موكلون بفضاء الرصيف الطويل وتفرعاته يذرعونه جيئة وذهابا، هذا في الساعات الأولى من الليل؛ أما في الساعات الأولى من النهار فما أكثر صرامة وحزم أرصفة الليل المعطرة المتبخترة؛ فلا يضرب بأقدامه عليها إلا العجلون العابرون إلى كلياتهم أو معاهدهم أو متاجرهم.
سرحت قليلا في تأمل تلك الصور اللدنة الخفيفة الماتعة من زمن شارع الوزير ولم أنس الساعات الأولى من افتتاح أول معرض للكتاب في الرياض؛ حين أقبل الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - الرئيس العام لرعاية الشباب بإطلالته الفخمة وكان في استقباله الدكتور عبد العزيز الخويطر وزير المعارف وضيف الشرف الأستاذ محمد حسين زيدان وجمع كبير من أعلام الفكر والأدب، وكنت خلف هؤلاء الأعلام مشدوها مبهورا بحدث ثقافي كبير يضم نخبة النخب من العلماء والكتاب ممن كنت ومن في سني - آنذاك - نتوق إلى رؤيتهم والتعرف عليهم وتبادل الحديث معهم بعد أن تنتهي طقوس المناسبة الرسمية.
لم تكن الرغبة في الاطلاع على ما يضمه المعرض من كتب الغاية الوحيدة؛ بل كنت أيضا مهموما بنقل تفاصيل تلك المناسبة إلى قراء الجزيرة كصحافي يتلمس طريقه في التحرير والكتابة؛ فكانت فرصة ثرية لأدون في صفحة كاملة مدعومة بالصور وشيء من تاريخ معارض الكتب العربية واللقطات المعبرة والتعليقات اللافتة، ومع أن فضاء دار الكتب الوطنية لم يكن يتسع إلا لعدد قليل من دور النشر مع عرض لعدد من اللوحات الفنية التشكيلية؛ إلا أنه كان بذرة أولى انطلق بعدها من وزارة المعارف إلى جامعة الملك سعود بعد افتتاحها في مقرها الجديد في الدرعية ثم إلى جامعة الإمام بإشراف وزارة التعليم العالي، ثم إلى وزارة الثقافة والإعلام.
كم بين الصورتين؛ القديمة البسيطة المتواضعة بما لا يزيد عن 50 دار نشر قبل تسعة وثلاثين عاما والحديثة الزاهية المنظمة الغنية الوافرة بأكثر من 550 دار نشر عالمية؟!
كم بين ذلك التوق القديم المبكر الرائع إلى أن يكون لثقافتنا حضور وتأثير وللوطن انفتاح على معارف وآداب وثقافات العالم؛ بما يؤسس لوطن متحضر ولإنسان واع قادر على التعاطي مع الثقافة الإنسانية من موقع الند للند، وبرؤية واثقة، وعقل قادر على الإضافة والفرز؟
ربما كان الطريق شاقا ولم يخل من عوائق، ربما وُجد ثمة من يضع عصا في الدولاب يريد إيقاف عجلة الحياة؛ لكن العزيمة والإصرار والحزم ووضوح الهدف وحكمة وصرامة معالجة من يضع العثرات ويثير اللغط والفوضى كفيل باستمرار حركة التحديث والتنوير التي يجب ألا تتراجع أو تضعف.