د. حسن بن فهد الهويمل
التساؤل المهم: هل أحد من المتعالمين يعي تلك الأحداث، وآثارها التي نجمت بالتقدير، والتدبير، والمكر. وأودت بقيم الأمة، ودمرت مصادر عزّها. وفرضت الشر المستطير بين المكونات السكانية. وأنشأت خطابات عربية مُتَنَاحِرةٍ، تولت تمزيق الوحدة الفكرية للأمة، بمثل ما مزقت [اتفاقية سايكس بيكو] الوحدة الاقليمية. حتى أصبح من المستحيل تفادي تلك الوحدتين؟.
مشكلة هذا الصنف [البراقشي] من الكتبة أنهم لا يسمعون الدعاء، {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا}، و{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ}.
بعض ما يكتبه أولئك، لايصدر إلا من كاتب لايستحي. وفي الحديث:- [إذا لم تَسْتَحِ فَاصْنَعْ ما شِئْت].
ومعاذ الله أن اُرتهن بمَفْهومات [الماكينة الجهنمية للسلطة]، أو[الأيدي الخفية]، أو[نظرية المؤآمرة]، أو[حُمَّى المكارثية]. بحيث أُضَيِّق الخناق على حق الحرية، والمساءلة، والتعايش، ولكنني في الوقت نفسه لا أسرح، ولا أمرح، ولا أوخذُ بثقة المقتدر، وارتياح الآمن.
كل ما أوده مراجعة النفس. وتقويم الذات. وإعادة النظر فيما قيل، وفيما آلت إليه الأمور.
فالواقع المعاش يمثل إدانة صريحة للنخب الفاعلة، وللمتصدرين للكتابة. وتواصل الإخفاقات، يستدعي التفكير. والتَّدَبُّر. والمراجعة.
فالإصرار على الحنث العظيم ليس من سمات الأوَّابين. والكلُّ خطاؤون، والخيرية فيمن لايتردد في مراجعة الإنجاز، وتفادي الأخطاء.
والشجاعة، والثقة تتمثلان بالاعتراف بالتقصير، وتحمل الخطأ. ومن ثم لابد من أخذ المسؤولية بحقها، وعدم ممارسة الإسقاط، أو البحث عن المشاجب.
وطننا الوارف الظلال في هذا السياق، ليس بدعًا من الأمم. إنه جزء من هذا العالم، فيما يأتي، ويذر. ويقدر، ويدبر. وفي جزره، وَمَدِّه. غير أنه يمتلك سمات، يجب أن توضع في الاعتبار. فهو دولة إسلامية. دستوره مستمدٌ من الفكر السياسي الإسلامي، المتشكل من مفاهيم [القرآن، وصحيح السنة] ومقاصِدهما.
والله شرفه بخدمة [المقدسات]. والعالم الإسلامي ائتمنه على ذلك، واطمأنت نفسه. ولم يعانق الدعوات الحاقدة الرعناء بـ[تدويل الحرمين].
و[المملكة] في أدوارها الثلاثة. تحكِّم الشريعة. وتأمر بالمعروف. وتنهى عن المنكر. وتجنح إلى السلام. وتعايش الفِرَق، والمذاهب بالتي هي أحسن.
تلك السمات تفرض نفسها، كجزء من قواعد اللعب السياسية.
وأي مناوئ يتصورها على غير ذلك. وأي خطاب يدعوها إلى ماسوى ذلك من [علمنة]، أو [غربنة] أو مذهبية ضيقة متعصبة يعد خطابًا صادمًا. ساعيًا إلى إرباك المسيرة. داعيًا إليها. جاهلًا أبسط متطلبات السمات.
وسياستها الحيادية، الإيجابية، الوسطية، استوعبت كل الأطياف، ووسعت كل الخطابات، وتَوقَّتْ كل اللعب، مع احتفاظها بثوابت الدين، ومحققات السلفية.
الكثير من الكتبة، يجهل قواعد اللعب، ومُخَرَّجَاتِها، وتستهويه البروق الخلَّب. وإذ لامناص من التلبس بها. لكونها كالليل الذي عناه الشاعر بقوله:-
[فإنّك كالليلِ الذي هوَ مُدرِكِي ... وإنْ خِلْتُ أنّ الُمْنتَأى عَنْكَ واسِعٌ]
فإن البراعة في التوقي، لا في الاعتزال، وفي الوعي، لا في الغفلة، وفي المقاربة، لا في الانغماس.
مايؤكد تبادل اللعب للمواقع، تغير خطابات المشاهد كلها بعد المتغيِّر الرئاسي الأمريكي.
وهذا يذكرني بكتاب [اللعبة انتهت] للدكتور [محمد الدوري]. وهو رصد دقيق للأحداث المتسارعة، التي تعمدت تغيير خارطة المشرق العربي. وكان كبش الفداء [عراق الرافدين]، و[بغداد الرشيد].
ورؤية [الدوري] تنهي اللعبة باحتلال [العراق]. وقد تعقبته بمقال: [لم تنته اللعبة يادوري]. ورؤيتي تمتد بحيث تتجاوز الاحتلال، إلى قتل [العراق] بكل مايشتمل عليه من حضارة، وإنسان، وقوى متعددة.
لقد انطلقت اللعب من [العراق] و[سوريا] تمهيدًا للقضاء عليهما. ورموز الصهيونية يضعون ذلك في أولويات اهتماماتهم.
حتى لقد ربط أحد هم أهمية القضاء على قوة الدولتين ووحدتهما بأهمية صنع [القنبلة الذرية].
وكانت الأهداف من الخفاء، والتضليل بحيث لم يدرك المستهدَف شيئًا من ذلك.
فـ[العراق] الذي نهض بمهمة تدمير ترسانة [الشاه]، سُلِّم لـ[الآيات، والملالي] كي يدخل فتنة الطائفية، وصراع العنصرية، التي لاتبقي، ولاتذر. وقد نهض شطر من أبنائه بالمهمة القذرة. كـ[نوري المالكي].
وإذا كانت خفايا [اللعب] غائبة عن طائفة من المتصدرين للشأن العام، فإن مادونهم من الكتبة، قد تغيب عنهم اللعب نفسها، فضلًا عن قواعدها. ودعك من المتآمرين، الناهضين طوعًا بمتطلباتها.
والراقصون على الجراح فوق مسرح اللعب كلما بدت لهم نُيُوبُها، ظنوا أنها تبتسم لهم. على حد:-
[إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً ... فَلَا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ].
هذا الصنف من الكتبة لايستنكف من [الحور بعد الكور]، ومن الرغاء بعد الهدير، ومن التناقض الصريح مع الذات.
ولو أن أحدًا من أولئك كلَّف نفسه متابعة مايطرحه بين الحين، والآخر، لوجدَ التناقض الصارخ، الذي أضلّ الأمة، وأطالَ زمن التخبط، والتيه. ومردُّ ذلك كله اجترار الطرح الإعلامي، وأخذه مأخذَ الجد.
الأمة العربية تعيش حالة من الضعف، والهوان. وسائر الكتبة يعمهون في ترددهم. ولايَدرى الحائر في سَلَّةِ مَنْ يضع بيضه.
ولن نجتاز وحل التخبط، حتى نعيد قراءة الأحداث المصيرية، التي تُشَكِّلُ [التاريخ الحديث] لأمتنا المغلوبة على أمرها. فالتاريخ وعاء اللعب، ومكمن الشفرات.
ومن أراد الخلوص من إعصارها فليقوِّ لحمته، وليوحد صفه، وهدفه، وخطابه.
فذلك الحل الناجح.