د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
سأتطرق، معذرةً، لموضوع شخصي في هذا المقال، وأؤكد على صفة شخصي حتى لا يقفز أحد ويقرأ ما هو ابعد من السطور ويتهمني بمحاولة الإفتاء بأي أمر متعلق. هذه تجربة شخصية خالصة. واقع جيلنا أننا ولدنا في وسط اجتماعي رمادي في غالب أموره، يغلي بصراعات متواصلة بين ما هو مباح وما هو محرم في أمور في غالبها ليست جوهرية لا في الدين ولا حتى في الأخلاق. أمور خلافية لا تحريم قاطع فيها. هذه التوتر الرمادي طبع شخصية الكثير منا بنوع من التردد والتوجس وربما التقلب. ولدنا ونحن نتخوف من التصوير بالكاميرا لا نعرف هو حلال أم حرام؟ نسير ونحن نتطلع لثيابنا هل هي مسبلة أم لا، هل في تلامس العرقوب أم هي فوقه؟ كانت فيديوهات الأغاني تهرب من دول الجوار، فيديوهات غاية في البساطة والسذاجة نختلس النظر لها منبهرين مع إحساس لا يقاوم بالذنب يكدر ما يتبع من أيام.
كبرنا وتعلمنا وبدأنا نحس بنوع من الثقة في النفس وعززنا إيماننا بالله بنوع من الاستقلال الفكري يعتمد القراءة المستقلة والقياس العلمي والمنطقي. فالعالم من حولنا يتغير ويتطور ونحن لا زلنا نغرق في مساحاتنا الرمادية. ثم مررنا بمرحلة، لا ارغب في وصفها، ترى أننا نخطئ ونذنب لو شاهدنا التلفزيون، ولو تجرأنا وقرأنا خارج الأطر الذي يحددها بعض الأوصياء لنا من نصوص منقولة حرفياً ولا تسمح بالتحقق والتمحيص. رويداً رويداً رأينا عالمنا القريب من حولنا ينجرف في عنف لا نهاية له، قتل، حرق، تشريد، سلب، تفجير حول مثل هذه الأمور. حرقت المكتبات، دمرت المتاحف، اغتيل المفكرون من أجل نزعة تطهيرية ممعنة في التطرف. ورويداً رويدا بدأنا نحس أن الكآبة هي قدر الإنسان في حياته، وأن الإنسان يكافأ في آخرته بقدر كآبته في دنياه حتى ولو صلى وصام وغض بصره وأحسن لغيره. مجبرون على تصديق بعض النصوص المتوارثة حتى ولو تعارضت وتناقضت مع ما منحنا الله من عقل. ما صدقه من سبقونا من نصوص توارثوها أصبح قدر علينا أن نقلبها دون تدبرها. نصوص لا يراها من ورثوها لنا بالضرورة صحيحة لكن تصديقها علينا واجب. تناسينا أننا لو أخفينا العقل الذي منحه الله لنا أصبحنا كسائر الكائنات التي تسقط عنها الواجبات والعبادات. فالعقل هو علامتنا الفارقة، والله جل جلالة كرمنا بالعقل وأمرنا بالتفكر.
أسابيع، أشهر، بل سنوات مرت والإنسان يغلبه الملل ملل رتيب لا يغيره إلا إيقاعات متقطعة من الكآبة. اختفت شهية القراءة، والكتابة امتنعت امتناع الماء عن الظمآن في فلاة يجري فيها خلف سراب. النفس تزداد ضيقاً بما حولها، التسامح أصبح عملة نادرة، بينما الفساد استحال لما يشبه العرف المقبول. كل ما في الجوار يزلزل قناعات عشناها عقوداً، حروب، دمار، فساد، انكسار. وإذا أراد الله لعبده أمراً سيره له من يخفف عنه ويبدد كآبته. هذا الكآبة بددتها رسالة من زميل وصديق غاية في الخلق والرقة، زميل فنان تقاعد من الجامعة ليتفرغ لمرسمه أو ربما فلنقل لمناجاة ريشته. الرسالة كانت دعوة لافتتاح معرضه الفني التشكيلي والذي يخالف نشاطه المعتاد الذي برز كمصمم قرافيكي. ولأني جزمت لسنين أن الدكتور سلطان الزياد وأمثاله ثروات وطنية مهدرة في مجالات مهمة فقد كنت أحس بضيق لجهلنا بمواهبنا. يقين يتجذر كلما شاهدت شعاراتً مسروقةً أو مستوحاةً بشكل ساذج من شعارات مستوردة. كان الافتتاح مجالاً للقاء الكثير من المبدعين السعوديين والذين أخالهم صندوق سيادي لثروة فنية مهمله. سعدت للتعرف على مبدعين شباب في مقتبل العمر ينجزون أعمالاً فنية غاية في النضج. الأعمال الجميلة في القاعة، والقامات الفنية التي قابلتها أعادت إلي روح التفاؤل في وطني وهويتي وأعادت لي بعض توازني الداخلي.
وكانت آخر مضادات الكآبة في هذا الأسبوع، حصولنا على تذاكر للحفل الفني الذي نظمته شركة روتانا مشكورة للفنان محمد عبده بمعية راشد الماجد. ولطالما تمنيت حضور حفل لهذه العبقرية الفنية الفريدة. وقد ذهلت لحسن التنظيم، وأدب الحاضرين الجم وتفاعلهم الراقي. هذه أول أمسية فنية عربية أحضرها، وبما أخرها، وهي حفل فني محافظ جداً إذا ما قورن بحفلات الفرق الأجنبية. وكان أول تساؤل عنّ بخاطري لما كل هذه الضجة حول حفل متحفظ كهذا؟ لما كل هذه الجلبة؟ المنظمون كانوا حريصين جداً على انضباط الحفل وخلوه من أي أمر محظور. لما يمنع الشباب من الالتقاء بفنانيهم في وطنهم؟ لما نهجرهم لخارج الوطن بينما الآخرين يفعلون كل ما في وسعهم لاستقطابهم؟ لا أخفيكم سراً فقد بددت هاتان المناسبتان غيوم الكآبة التي كانت تحوم في سماء محيطي. فشكراً لكل جميل يحاول أن ينشر الجمال، وشكراً لهيئة الترفيه إن كان لها دوراً في ذلك.