د. محمد عبدالله العوين
لقد أصبح البحث عن الكتب النادرة هوساً حقيقياً؛ فتمكنت صلتي بالمرحوم سعد الراشد صاحب مكتبة المعارف بشارع العطايف، وكان رجلاً لطيفاً سمحاً محباً لهواة الاطلاع، عطوفاً على الناشئة منهم مترفقاً عليهم في أثمان الكتب، وذُكر لي رجل يبيع النوادر من الكتب في حراج ابن قاسم اسمه «جبران» إن لم تخني الذاكرة؛ فذهبت أطلبه في الحراج حتى اهتديت إليه، وهو رجل ربعة بين الطويل والقصير كث لحية يخالطها الشيب، يجمع بين الاطلاع الواسع وخفة الظل، وقال لي: إن أردت ما لم أعرضه لعامة الناس فعليك أن تنتظر إلى قرب أذان المغرب وتذهب معي إلى المستودع في « غبيرة» وستجد ما يروق لك، وافقت متلهفاً، وحين وصلنا للمستودع وجدته مظلماً شديد الحلكة، فعجبت وقلت له: أنر المستودع يا شيخ جبران؛ كيف يمكنني الاطلاع على الكتب في هذا الظلام الدامس؟ قال: النور مقطوع، ولكن خذ هذا الكشاف فسيكفيك، وعلى ضوء الكشاف الشحيح ملأت كرتوناً من تالد وطريف بثمن بخس جمعها «جبران» من مكتبات المتوفين الذين تعرض مكتباتهم في الحراج.
وعند بدء اهتمامي علمياً بأدب الجزيرة العربية، وعلى الأخص منه أدب المملكة، والأوضاع السياسية والعلمية والاجتماعية للدولة السعودية في مراحلها الثلاث، والمرحلة الحرجة التي استهدفت فيها الخلافة العثمانية بلادنا وما عانته المنطقة العربية من تسلط تركي، اجتهدت في البحث عن المصادر المعينة لأكتب دراستي عن فن النثر وعلى الأخص منه المقال الأدبي وكيف صور تلك المراحل فتواصلت مع الأستاذ محمد الحمدان الذي افتتح مكتبة «قيس» للكتب والصحف والمجلات القديمة، وقد اقتطع جزءاً صغيراً من منزله القديم الواقع في أحد شوارع ظهرة البديعة وعرض بضاعته النادرة فيه، والحق أن الأستاذ الجليل خلب لبي وسحرني بشيئين؛ لطفه الجم ودماثة خلقه ثم ندرة ما أجده في مكتبته التي جمع نفائسها من مكتبات مصر، والمكتبيين المتخصصين فيها، ومن سور الأزبكية، ومكتبات تركيا؛ فاقتنيت مذكرات الغازي أتاتورك، وجل ما كتب أو ترجم عن تركيا ومصر في تلك الحقب، والأعداد الأولى من مجلة الجزيرة واليمامة الشهريتين، وأعدادا متفرقة من الصحف السعودية القديمة منذ صدور «أم القرى» عام 1343هـ إلى مطلع 1400هـ.
وبعد توثق العلاقة مع صاحب مكتبة قيس أمسك بيدي وقال سأريك المخزن، لنذهب إلى «ظهرة البديعة» وستجد ما يسرك، والمشكل أن هذا الرجل الطيب بتعاونه وحبه للباحثين فتح علي - ربما من غير قصد - باباً لم يغلق إلى اليوم؛ فقد انتقلت عدوى الكتب والصحف والمجلات القديمة وأوائل ما صدر منها إلي، ووجدتني أحرص كل الحرص على أن أحتفظ بالعدد الأول من كل جريدة أو مجلة تصدر، ويجهدني البحث عن نسخة نادرة طبعت لأول مرة وفقدت من مذكرات ذاك السياسي أو ذلك الأديب، أو كتاب تاريخي نادر يتحدث عن حقبة غامضة، وهذا قادني إلى أن أراسل عدداً من دور النشر في القاهرة وبيروت؛ فانعقدت صلتي بهم وتوثقت، وصارت تصلني قوائم منشوراتهم دورياً كلما جد جديد لهم، أطلب ويرسلون ما أختاره من كتب بالبريد.
وأعترف أن هذا الهوس المرضي لم تكن نتائجه الضارة علي وحدي؛ فبعد أن تضاعفت الكميات وتزاحمت وضاقت الممرات والزوايا اضطررت أن أجمع ثلاثة أولاد في غرفة واحدة، وأستفيد من غرفتين كانا أولى بهما، إضافة إلى المكتبة الرئيسة، ولأن الأمر لم يعد محتملاً أصبح التخزين في الكراتين المغلقة حلاً في غرفة نائية بسطح المنزل إلى حين.
ولأن الأمر لم يعد يطاق؛ تحتم علي البحث عن دار جديدة واسعة تكون المكتبة أكبر ما فيها، ويسر الله تحقيق الأمنية؛ فطلبت من المهندس المصمم اقتطاع 10 × 12 م مساحة للمكتبة في الدور العلوي؛ بحيث لو احتجت في قادم الأيام إلى مزيد من المساحة يمكنني أن أضيف؛ فقال المهندس المصري اللطيف الظريف: ليه.. هو انتا حتبني ملعب يا ابني؟!