عبدالعزيز السماري
عندما نراقب بعض التعليقات المناهضة لمختلف الفعاليات الثقافية الحالية، فستكتشف كمية الأحادية المفرطة في التشدد في ذهنية المجتمع، ولم يكن هؤلاء إلا ضحية لنمط دعوي وتعليمي قديم، وربما يعود إلى القرون الوسطى، وذلك عندما نجح هذا المنهج في تقويض الحضارة العربية باسم تقويم وتصحيح العقائد بعد ازدهارها عالمياً.
كان أحد تبعات ذلك التقويض الفوضوي انشطار الأمة تحت سياط الصراع الطائفي، والذي لم يخل من منافع السياسيين والطبقات الحاكمة، ولو كان ذلك على حساب نبوغ الحضارة العربية الإسلامية، وقد وصلت تلك الأحادية إلى عقول العوام، ثم حولتهم عبر القرون إلى تبني نظرة سلبية جداً تجاه الحياة، إلى درجة تفجير أجسادهم بالقنابل الموقوتة، وذلك من أجل فرض رأيهم الأحادي والضيق جيداً على الغالبية..
كان الإقصاء من أهم أسلحة الهدم في حضارتنا المشرقة، وكانت المزايدة في الإقصاء شفرته الحادة، ووصل الأمر إلى أن يكون الإقصاء هو جوهر الدين، ولعل أشهر أمثلة الإقصاء ما فعله أبوحامد الغزالي في مجلده الشهير «تهافت الفلاسفة»، وكان غرضه إنهاء الحراك العلمي والثقافي في المجتمع.
لكنه مع ذلك تم إقصاؤه من قبل جماعات أكثر تطرفاً، وقد قيل عن كتابه «إحياء علوم الدين» من باب الإقصاء «إماتة علوم الدين»، فتم إقصاؤه من الباب نفسه الذي أقصى به الآخرين، وكانت البوابة التي سمحت بدخول التطرف إلى ساحاتنا الخلفية.
لعلني أحد الذين يؤمنون أن الطريق الصحيح إلى الحضارة العلمية المعاصرة يبدأ من إنجازات علماء العرب والمسلمين في تلك الحقبة، ومن يريد أن يعرف عن حجم بعض تلك الإنجازات يقرأ كتاب «بيت الحكمة» للمؤلف جوناثان ليونز أو القصة المدهشة لما حققه علماء العرب في العصور الوسطى من إنجازات متقدمة في العلم والفلسفة، وقصة الأوروبيين الجوالين الذين نقلوا هذه المعرفة إلى الغرب.
كان مهمة الإقصاء في ذلك الوقت هدم التفكير العلمي المبني على البراهين والتجربة العلمية، وذلك لحجة أنه مضاد للدين، فالعلم الشرعي هو العلم المقصود في الوحي، وأن إنتاج العقل الإنساني يغلب عليه الانحراف والزندقة، وقد يكون خطأ في نتائجه، وكان الثمن غالياً، وهو انهيار الحضارة العلمية الأكثر تأثيراً في التاريخ، وغياب علماء أكفاء عن لائحة الشرف العالمي في تاريخ الحضارة.
لهذا السبب ولأسباب كثيرة تعجز مساحة المقال عن استيفائها يجب أن نبدأ مرحلة التغيير، فالأمر له علاقة بالاستثمار في العقل الإنساني، ويجب أن يكون التطوير متنوعاً وشاملاً، وتبدأ الرحلة من أهم فصوله وهو التسامح وقبول مبدأ الاختلاف، واحترام التعددية الفكرية، وعلى الاقصائيين أن يدركوا أن منهجهم ثبت فساده، فالإسلام لا يمكن اختزاله في هذا الرأي الضيق.
كما أن التطوير يجب أن يكون شاملاً، وأن تعود مكانة الإنجاز العلمي للمجتمع المسلم، فالإنجاز العلمي يتحقق في الزمن المعاصر من خلال دعم التفكير العلمي، ورصد الأموال لرفع معدلات البحث العلمي في مختلف المجالات، وقبل ذلك ترسيخ المنهج العلمي التجريبي في المدارس، وأيضاً إضافة مادة أساسية محتواها إعادة الاعتبار للمنجزات العلمية لعلماء العرب والمسلمين، و التي غيرت التفكير العلمي في التاريخ..
تأتي أهمية تدريس تاريخ نشأة العلم لزرع الثقة في الأجيال القادمة، ورفع مستوى الاعتزاز بحضارتهم بدلاً من محاولات القمع التي يمارسها البعض بجهالة نادرة، ومن المفارقة أن من يمارس الإقصاء للحضارة الذهبية للعرب والمسلمين يقوم بها رجل محسوب على التيار الثقافي برغم من أنه يحتفظ بهيئته السلفية عند قيامه بمهمة الإعدام لهذه الحضارة، وهو وجه آخر لنسق الإقصاء الخطير والمتوارث عبر الأجيال.