د. عبد الله المعيلي
حالٌ تنطبق على كل من وفَّقه الله، وتبوأ منصبًا قياديًّا عاليًا في بلاده؛ إذ يحظى بالكثير من المميزات المستحقة التي يتطلبها العمل في المنصب نظرًا لما يمثله الجهاز الحكومي الذي كُلف بقيادته والإشراف عليه من قيمة مجتمعية، وكذا إنجاز مهمات العمل، سواء في الداخل أو الخارج.. فالمميزات الممنوحة ليست للمسؤول المكلف، بل للوظيفة التي كُلف بإدارة العمل فيها، وإنجاز المهمات والغايات التي ترنو إليها.
فالراتب العالي، والسيارة، والسائق، والمرافق، والهاتف المجاني، وإنجاز الأعمال التي يتطلبها السفر من حجز وإقامة وإعاشة واستضافة، وتقديم الخدمات كافة في المكتب وخارجه، والحفاوة والابتسامة والخدم، وغيرها مما يحقق الراحة والشعور بالتميز والتمتع بتيسير الأمور وتسهيلها.. ميزات خاصة، طالما أن القيادي مكلف بقيادة الجهاز.
ولكن يجب أن يفهم كل من يُكلَّف في الأجهزة الحكومية أن يوطِّن نفسه، ويُفهمها أن ما يتمتع به الآن من ميزات مرهون باستمرار تكليفه، وأنه في يوم ما سوف يترك هذا المنصب، ويفقد ميزاته المؤقتة التي كان يتمتع بها؛ وبالتالي عليه ألا يُغرَّ بما يتمتع به، وألا يبالغ في اعتبار ذلك سمة سوف تستمر معه إلى الأبد.. أبدًا، الأمر مرهون بتكليفه؛ فعليه أن يدرك ويستوعب أنه متى ما تنحى أو نُحِّي عن المهمة فسوف يعود إلى سابق عهده مع أنماط الحياة التي كان يعيشها قبل تكليفه بمهمات الجهاز الحكومي.. حالٌ مر بها كل من كُلِّف بقيادة عمل ما.
يحصل هذا في العالم الغربي. فمن الأمثلة القريبة أن رئيس الوزراء البريطاني الأخير ديفيد كاميرون حمل أمتعته بنفسه من مسكنه ومقر مكتبه في 10 داونينغ ستريت عندما قدَّم استقالته من رئاسة الوزراء، وجلس في قارعة الطريق يأكل الفطائر بجوار عامة الناس، ولم يرَ في ذلك غضاضة؛ لثقته بنفسه، وأن قيمته الاجتماعية في نجاحه وإنجازاته، وليس بعمله رئيسًا للوزراء. هذه الصورة الجميلة من الثقة بالنفس رأيناها عند أكثر من مسؤول في العالم الغربي.
أما بعض المسؤولين العرب، أيًّا كان منصبه، فإنه يصاب بالاكتئاب النفسي، وينكفئ على نفسه، وينعزل عن الناس، ويتهيب من مخالطتهم، وتضيق به الدنيا، ويزداد ألمًا كلما تذكر أنه بين عشية وضحاها فقد ما كان يتمتع به.. هذه حال بعض المسؤولين، يظل أسيرًا هذه الحالة حتى تزول آثار صدمة إعفائه من منصبه، ويبدأ شيئًا فشيئًا يختلط بمحيطه الاجتماعي الصغير، ثم يزيد دائرة الاختلاط مع مرور الأيام.
الأدهى من هذا والأمرّ أنه يصاب بحالة وسواس؛ فعندما يرى البعض يتحدث مع القريبين منه في الجلسة يتبادر إلى ذهنه أنهم يتحدثون عنه، وينظرون إليه بأسى، وأن نظرتهم له لم تعد كما كانت عندما مسؤولاً من تقدير واحترام وتبجيل وثناء.
أذكر أنه في إحدى المناسبات دخل وزير إحدى الوزارات الرئيسة، الذي كان يُخطب وده، والكل يحتفي ويفسح له المجال في المجالس.. وعندما أُنهي تكليفه وزيرًا قال أحد الجالسين لمن حوله «طمن رأسك»، أي اخفضه إلى الأسفل كأنك لم تره؛ حتى لا يُفسح له في الجلسة.
هذه عقدة عامة ملازمة لكل من ترك المنصب أو أُعفي منه. هذا شعور الضعيف الذي ربط كل علاقاته بمنصبه.. أما الواثق بنفسه، الذي ترك المنصب وقد حقق الكثير من الإنجازات والنجاحات التي خدم بها عمله وذوي العلاقة به المستفيدين منه، فغير ذلك.
على المسؤول أن يتكيف مع حياة ما بعد المنصب.. الكل يجب أن يعي التداعيات النفسية المصاحبة لما بعده، وأن يخلص في عمله؛ حتى يظل عالقًا حبه وتقديره في القلوب.