الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف
(إذا أردتَ أن تقضي على الفساد فسهِّل الإجراءات.. والعكس صحيح).. هذه العبارة سمعتها وسمعها الكثير من المسؤولين في منطقة الرياض من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حين كان أميراً لمنطقة الرياض.
كان - حفظه الله - يحثُ الجميع على تسهيل الإجراءات والاهتمام بالمواطنين ومعاملاتهم وعدم التضييق عليهم أو محاباة أحد على آخر. وكان أيضاً يحب النِّظام والالتزام به من الجميع، إلا أنه وفي نفس الوقت كان يمقت التعقيد والتشدُّد والتنطُّع في وضع وتفسير الأنظمة. وفي ذلك الإطار دعم - حفظه الله - توجُّهات ومحاولات الأمانة في الجمع بين الالتزام بالأنظمة وتطبيقها وبين تسهيل الإجراءات على المواطنين.
بدعمه ومساندته - حفظه الله - تبنَّت أمانة منطقة الرياض برامج متعدِّدة وطموحة لمأسسة العمل البلدي والتوجه به نحو اللامركزية والاستقلالية المالية والإدارية؛ وذلك بهدف تسهيل الإجراءات ورفع كفاءة العمل وتعظيم رضا المواطنين عمَّا يُقدِّم لهم من خدمات، منها ما تحقَّق - بفضل الله - ومنها ما تمَّ البدء به، ومنها ما لم تتمكَّن الأمانة من المضيِّ به لأسباب منها مركزيَّة المنظومة الإداريَّة لنظام العمل البلدي على وجه العموم. ومن بعض ما تحقق - بحمد الله - من هذه البرامج على سبيل المثال، تأسيس وإنشاء الإدارة النسائيَّة وبأ كثر من ستمائة موظفة في مختلف التخصُّصات، تطوير الكثير من إجراءات التخطيط العمراني وبما يضمن تبنِّي الأفكار والمبادرات الجديدة، التوجه للامركزية وتفويض الصَّلاحيات وبالأخصِّ في البلديَّات الفرعيَّة وإدارات الرُّخص، تأسيس مركز طوارئ الأمانة 940، إطلاق مشروع إنشاء المراكز الإداريَّة وما تبعه من تعديل حدود البلديَّات الفرعيَّة، تقسيم عقود النظافة على مستوى البلديات الفرعيَّة بدلاً من شركة وحيدة، التَّرتيب والتَّطوير النَّوعي للعمل الرَّقابي عموماً وبشقَّيه الفنِّي والصِّحي والخصخصة الجزئيَّة لهذا النشاط، تأسيس إدارة عامَّة للاستثمار من خلال الشراكة مع القطاع الخاص وتطوير ورفع كفاءة استثمارات الأمانة وتعظيم إيراداتها. وأخيراً، وليس آخراً، برنامج إصدار الرُّخص الفوريَّة للمباني.
يعدُّ برنامج الرُّخص الفوريَّة برنامجاً ريَّاديَّاً في التعامل مع الإجراءات، استطاعت الأمانة من خلاله كسر الدَّائرة المغلقة التي تدور فيها إجراءات إصدار الرُّخص في البلديات. وتمكَّنت الأمانة من اختصار الوقت أو بالأحرى إلغاء الانتظار لأشهر أو أسابيع كليَّاً. إضافة إلى ذلك ساهم البرنامج في التَّعزيز من مستوى النَّزاهة والعدالة والمساواة والوضوح للإجراءات والضَّوابط البلديَّة.
نشأت فكرة البرنامج في عام 1427هـ، وفي عام 1429هـ بدأ التَّطبيق الاختياري للبرنامج على الاستعمالات المباني السكنيَّة. وفي عام 1430هـ بدأ التَّطبيق الإلزامي له على الاستعمالات الصناعيَّة كالورش والمستودعات. وفي عام 1432هـ تمَّ إلزام المكاتب الهندسيَّة بإصدار الرُّخص الفوريَّة للفلل والقصور من خلال بوَّابة الأمانة للخدمات الإلكترونية. وقد اكتمل الإطار العام للبرنامج في عام 1433هـ بإصدار الرُّخص الفوريَّة للأبراج السكنيَّة والمكتبيَّة والتجاريَّة للمباني المتعدِّدة الأدوار.
اعتُمد في تأسيس برنامج الرُّخص الفوريَّة على فلسفة إداريَّة تتمثَّل في خمسة جوانب هي الوضوح والثِّقة والشراكة والمتابعة ومن بعدها الحزم في تطبيق النظام.
الوضوح: في اشتراطات البناء والأنظمة والتعليمات البلديَّة المُنظِّمة لذلك وجعلها مُتاحةً للجميع وبكلِّ دقة.
الثِّقة: في المواطن وفي المكاتب الهندسيَّة انطلاقا من أنَّ الملتزمين بالنِّظام هم الأغلبيَّة ولا يصحُّ معاملة الأغلبيَّة على أنَّهم مخالفون.
الشَّراكة: في تعامل الأمانة مع المكاتب الاستشاريَّة كشريكٍ موثوقٍ يوكل إليه التحقُّق من استيفاء شروط رخص البناء وانطباق الاشتراطات قبل تقديم المُخطَّطات، وتتمُّ المتابعة اللاَّحقة للتأكُّد من صدق ودقَّة ومصداقيَّة ما تمَّ تقديمه ومدى التزامه بالأنظمة والتَّعليمات.
المتابعة: التأكُّد اللاَّحق من انطباق التَّعليمات بعد إصدار الرُّخصة وليس قبلها.
أما الحزم: ففي تطبيق النِّظام وكان يَتم إيقاف رخصة العمل لأيِّ مخالفة يتمُّ اكتشافها أثناء المتابعة اللاَّحقة ويتحمَّل المكتب الهندسي المُصمِّم تبعات المخالفة بما فيها تطبيق النِّظام على المكتب نفسه وإيقافه عن العمل إن لزم الأمر ذلك.
تتلخَّص فكرة الرُّخص الفوريَّة من الناحية التطبيقيَّة في ثلاثة جوانب: الأوَّل تحديد وتوضيح نظم واشتراطات وضوابط البناء بكلِّ دقَّةٍ وإتاحتها كمعلومةٍ للجميع بما في ذلك وضعها على موقع الأمانة على الشبكة العنكبوتية. الثاني، التزام المكتب الهندسيِّ المُصِّمم ضمن اتفاقيَّة قانونيَّة مع الأمانة بهذه الضَّوابط وتحمُّل مسؤوليَّة أي مخالفة لها في المخطَّطات والوثائق المقدَّمة منه. والثالث، احتفاظ الأمانة بحقِّها في المتابعة اللاَّحقة بعد إصدار الرُّخصة واتِّخاذ اللاَّزم في تطبيق التَّعليمات على المبنى وعلى المكتب الهندسي متى ما ثبت تقديمه لمخطَّطاتٍ ووثائق غير صحيحةٍ أو مخالفةٍ للأنظمة.
من الجميل أن إحدى إيجابيَّات مبادرة الأمانة في إصدار الرُّخص الفوريَّة أن استلزم تحقيق تنفيذها بعض المتطلَّبات الضروريَّة لتهيئة المناخ الدَّاخلي للبلديَّات ومنظومتها الإداريَّة وتمكينها من الانطلاق بالمبادرة. والأجمل أنَّ المبادرة دفعت الأمانة لعددٍ من المبادرات الأخرى سواءً تلك اللاَّزمة كمتطلَّبات سابقةٍ لإطلاق المبادرة أو غيرها من المبادرات المكمِّلة والمتكاملة معها. وكان من تلك الخطوات التنظيميَّة والتطويرية الاستباقيَّة والمكمِّلة تبنِّي الأمانة التعاملات الإلكترونية حيث استطاعت بعد عملٍ دؤوبٍ وجهدٍ كبيرٍ من وضع جميع أنظمة البناء على موقعها الالكتروني وتمكين المواطنين والمكاتب الهندسيَّة من الاستعلام عنها بيسرٍ وسهولة. واستحدثت الأمانة، وكنوعٍ من خصخصة بعضِّ المهام، مشروع الإدارة المركزيَّة لرقابة المباني والمنشآت وكلَّفت أحد المكاتب الاستشاريَّة بالإشراف على المشروع وتقديم الدَّعم الفنِّي له، وذلك لدعم وتنظيم وتطوير وتكثيف الرَّقابة على المنشآت بهدف رصد وإيقاف المخالفات منذ بدايتها. كما عزَّزت الأمانة أيضاً من مبدأ اللامركزية حيث تمَّ إنشاء إدارة لرخص البناء في كلِّ بلديَّةٍ من البلديَّات الفرعيَّة الخمس عشرة وتمَّ تفويض الصلاحيات اللاَّزمة تبعاً لذلك. وتبنَّت الأمانة إعادة تأهيل مقرَّات إدارات رخص البناء تقنياً وجعلها كمراكز خدمات العملاء، وأخيراً رفعت الأمانة من مستوى العلاقة مع المكاتب الاستشاريَّة بأن تبنَّت عقد عدَّة دوراتٍ واجتماعاتٍ وورش عملٍ نتج عنها أن أصبح عدد المكاتب الهندسيَّة المسجَّلة والمرتبطة الكترونيًا بالأمانة آنذاك (328) مكتبًا هندسيًّا من أصل (375) مكتباً.
تدرَّج تطبيق وظهور بوادر القبول والنجاح للمبادرة حتى بلغ إجمالي الرُّخص الفوريَّة التي صدرت عن الأمانة حتى عام 1433هـ 11155 رخصةً للفلل السكنيَّة و856 رخصةً للورش والمستودعات و93 رخصةً للعمائر و6 رخصٍّ للأبراج السكنيَّة والمكتبيَّة. وكان من ضمن المشروعات التي تمَّ إصدار رخصةٍ فوريَّةٍ لها مشروع لوزارة الإسكان يقع ضمن أرض مطار الملك خالد بمساحة خمسة ملايين متر مربع وبعددٍ يقارب الـ 7000 وحدةٍ سكنيَّة.. وتوالى الإقبال على المبادرة من المكاتب الاستشارية وزاد تمكُّن وخبرة مهندسي الأمانة من التَّعامل مع المبادرة حتى إن الأمانة أصدرت خلال الفترة من 1435 - 1436هـ 27479 رخصة بناءٍ فوريَّة؛ تشتمل على العمائر المتعدِّدة الأدوار والأبراج السكنيَّة والمكتبيَّة والتجاريَّة، وعمائر النِّظام المطوَّر على الشوارع والمباني التجاريَّة والأسواق المركزيَّة، والمباني الخدميَّة.
نالت أمانة منطقة الرياض - بحمد الله - ونتيجة لنجاح مبادرتها في تأسيس وتطبيق برنامج رخص البناء الفورية عدداً من شهادات التَّقدير، وحصلت على عددٍ من الجوائز التقديريَّة. فعلى سبيل المثال أثنى معالي رئيس هيئة الرَّقابة والتَّحقيق في خطابٍ عام 1429 هـ على برنامج الرخصة الفوريَّة مشيداً به «لما فيه من تيسير إجراءات منح رخص البناء وأنَّه يهمُّ الهيئة كما يهمُّ الأمانة لكون ذلك من الأمور الوقائيَّة لحماية النزاهة والحيلولة دون لجوء ضعفاء النفوس لما هو محظور وسدَّاً للثغرات التي قد ينفذ منها هؤلاء». كما رفعت الهيئة العامَّة للاستثمار عام 1430 هـ شكرها للملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - (أمير منطقة الرياض آنذاك) ولأمانة منطقة الرياض على إنجاز مبادرة الرُّخص الفوريَّة مشيدة بها ومشيرة إلى أنَّها ساهمت في تحسين ترتيب المملكة في مؤشِّر استخراج التَّراخيص من المرتبة (50) إلى المرتبة (30) في برنامج التنافسيَّة العالميَّة لتحسين بيئة الاستثمار للعام 2010 م على مستوى العالم. وكان إصدار رخص البناء الفوريَّة أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت في حصول أمانة منطقة الرياض على جائزة منظَّمة المدن العربيَّة فرع «استخدام وتطبيق الحاسب الآلي» عام 1431هـ، وبالمثل، فقد حصلت مبادرة أمانة منطقة الرياض للرُّخص الفوريَّة على جائزة الإنجاز للتعاملات الإلكترونية الحكومية فرع «تعزيز الاقتصاد الوطني» من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات عام 1431هـ. وتمَّ تتويج هذا الإنجاز في عام 1433هـ عند زيارة صاحب السمو الملكي وزير الشؤون البلديَّة والقرويَّة آنذاك الأمير الدكتور منصور بن متعب بن عبد العزيز لأمانة منطقة الرياض، حيث وجَّه بعد عرض المبادرة عليه، جميع أمانات المملكة بالاطلاع على تجربة أمانة منطقة الرياض للرخصة الفوريَّة للمباني والعمل على تطبيقها، مشيداً بتجربة أمانة الرياض في تطبيق هذا التنظيم، معتبراً سموه ذلك إنجازاً يحتذى به.
أسَّسَت مبادرة الرخص الفوريَّة بحمد الله، لمنظومةٍ متكاملة من المبادرات والأعمال اشترك فيها القطاع العام مع القطاع الخاص للرَّفع من مستوى المسؤوليَّة وجودة الإنجاز وتسهيل الإجراءات، كما ساهمت في تعاظم رضا العملاء من مواطنين ورجال أعمال. وقد أثمرت مبادرة الرُّخصة الفوريَّة وحفَّزت وستستمر، مبادراتٍ وترتيباتٍ فنيَّةٍ وإداريَّةٍ كثيرةٍ لتحسين وترتيب بيئة العمل البلدي الفنيَّة والإداريَّة ورفعت مستوى النَّزاهة والمهنيَّة بين منسوبي القطاع البلدي، كما حقَّقت العدل والمساواة بين كافة المواطنين. وكان من ثمار المبادرة توجُّه الأمانة للمزيد من اللامركزية الإداريَّة وإلى التوجُّه لخصخصة بعض المهام الفنيَّة من الرقابة على المنشآت إلى تطبيق شروط البناء وإصدار الرُّخص.
آمل أن تستمرَّ العبارة الحكيمة «إذا أردت أن تقضي على الفساد فسهِّل الإجراءات.. والعكس صحيح» في الرَّبط بين تسهيل الإجراءات ومحاربة الفساد في ذهن جميع العاملين في القطاع البلدي والذين يبذل أغلبهم جهوداً حثيثة ويقومون بأعمال إيجابيَّة كثيرة ومتعدِّدة. فتسهيل الإجراءات ليس بالأمر السَّهل ولكنَّه يستحقُّ الإنجاز لنتائجه الإيجابيَّة وما يصاحبه عادةً من تطوير تنظيماتٍ كثيرة في صالح الارتقاء بالعمل البلدي ورفع مستوى رضا الناس وتطوير مستوى خدمتهم.