د. إبراهيم بن محمد الشتوي
محاولة فهم
أصبح التطرف القضية الكبرى التي تشغل أذهان الساسة، والمفكرين، والمثقفين، وعامة الناس على السواء، فلا يأتي يوم لا نسمع ذكراً له، وتحذيراً منه، وعزيمة صادقة على محاربته. ومع أن الواقع يثبت أن التطرف هو حالة، وموقف لا ترتبط بدين، أو مذهب، أو سلوك، إلا أن التطرف الديني الإسلامي هو الذي يشغل التفكير العالمي أكثر من غيره، وهو الذي يستأثر بهذا الجهد الكبير من التفكير، والتحليل، والتفسير، ومحاولة الحل.
ولعله من العجيب، أنه في الوقت الذي يتنادى كثير من الناس إلى الوقوف ضد التطرف، واعتباره سمة سيئة، يجده بعض الناس عامل جذب في الإسلام، إذ يرى أنه بالرغم من مضي كل هذه القرون على دعوته، لا يزال يمتلك القدرة على جذب الناس، وإثارتهم، وتجميعهم، مما يعني قدرته الكبيرة على التواصل مع النفوس البشرية في أعمق تكوينها، ومعرفة حاجاتها، والقيام بمتطلباتها. وأياً ما يكن، فإن الحديث عن التطرف الديني يختلف عن الحديث عن الإسلام، وهو يتصل بجانب الصحة والخطأ، بمعنى: هل هذا هو الدين الصحيح الذي جاء به محمد بن عبد الله، واستظلت القرون الماضية بظله، كما أنه يتصل بقبول المسلمين لهذه الصورة من الإسلام التي يحاول البعض أن يفرضوها، وتحويل الواقع إليها. وحين نعود إلى الوراء، نستطيع القول: إن الجماعات المتطرفة بصورتها المائلة إلى العنف، واستعمال القوة الجسدية بفرض رؤيتها، والسيطرة على الآخرين، ظهرت في منتصف القرن الماضي، ودفعت بالسؤال الملح عن مشروعية مثل هذا النمط من التفكير، بالنظرة إلى الدين، واعتباره بتحويله إلى نظرية تفصيلية لدقائق الحياة، وبرنامج يومي يشمل الصغير والكبير. هذا البرنامج تحول بعد ذلك إلى أداة لتمييز الناس، والفصل بينهم. الأمر الذي أدى إلى أن صار أداة للقضاء على الآخرين، ووسيلة للسيطرة عليهم.
وحين نعود مرة أخرى إلى مرحلة زمنية أقدم من منتصف القرن الميلادي الماضي، ونبحث في الظرف الذي بدأت فيه تلك الجماعة بالتكون، نجدها لا تنفصل عن الظروف التي تكونت فيها الأحزاب والتيارات الفكرية، حيث كان كثير منها منشغلاً بصورة أو بأخرى بسؤال النهضة الذي طرحه شكيب أرسلان في القرن التاسع عشر: لماذا تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم؟
وقد سعت كل واحدة منها إلى الإجابة عليه بطريقتها الخاصة، وبتقديم البرنامج الذي تراه مناسباً، ويتوافق مع الشعار الذي ترفعه. وهذا يعني أن هذه الجماعات كانت من التيارات الفكرية/السياسية التي ظهرت في الربع الأول من القرن العشرين، وكانت تحاول أن تتصدر المشهد العربي، وتعبر عنه. ومن هنا، فقد حاولت هذه الجماعات أن تجيب على سؤال مكرر بإجابة جديدة تتمايز بها عن سائر الأطروحات المقدمة من قبل التيارات القومية، والعلمانية في ذلك الوقت. وهذا يعني أن التمايز عنها جزء من المهمة التي عليها أن تنهض بها، ويعطيها شرعية الوجود في ظل ذلك التعدد، والتنوع في المكونات الفكرية والسياسية.
وليس بالضرورة أن يكون «التمايز» أساساً في صلب التكوين، ولكنه ضرورة وجودية، يمكن أصحابها من كسب الأتباع، وتبرير الانعزال والانفصال، ثم يصدق هذه حقيقة الاختلاف الذي تدعيه هذه الجماعات. وهنا ندرك كيفية نشوء ذلك الخطاب بوصفه ضرورة سياسية بالدرجة الأولى، وليس بالضرورة أن يكون ضرورة علمية حقيقية من صلب التكوين.
ولأن الملهم كان سؤال النهضة، فإن هذا يعني أولاً أن مشروع هذه الجماعات ليس مشروعاً نابعاً من ذاتها، بناء على أن لديها رؤية محددة حيال الواقع جديدة، ولكنه جزء من مشروع كامل عني به المثقفون والكتاب منذ عصر نهضة محمد علي إلى زمن ظهور تلك الخطابات التي يربطها كثير من الدارسين بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهو الوقت عينه الذي ظهر فيه الأمير شكيب أرسلان، مما يعني أن الوعي بأهمية التطور قد بلغ نضجه في هذه المرحلة بعد جهود محمد علي الإصلاحية.
ويعني ثانياً أنها متأثرة بتلك الظروف التاريخية التي نشأت فيها، وأنها استجابة لها، فهي لا تختلف عنها كثيراً في الهدف. الأمر الذي يطرح السؤال حول إمكانية استمرارها بالصورة نفسها حين تتبدل المرحلة التاريخية، وتختلف شروط مرحلتها، وأخيراً يفتح السؤال عن مصادر العناصر التي استعملت في بناء ذلك البرنامج، ويعود في أقصى حد إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، يعني قبل ظهور رمزها الأكبر بما يقارب أربعين عاماً.