سهام القحطاني
قلت في الجزء الأول من هذا الموضوع إن الدين سيظل هو مصدر هوية الإنسانية رغم كل الخلفيات الفكرية التي تحاول من حينا لآخر مزاحمة ذلك المصدر بالإضافة أو الإزاحة، ولذلك أسباب عدة سأركز هاهنا على ثلاثة أسباب هي:
أن الدين سيظل الحافظ الآمن الضامن لخصوصية الهوية المبنية عليها ثنائية الأنا والآخر، وبذلك يتحول الدين إلى سلطة مقاومة للتذويب أو الاندماج السلبي، وهذا يعني أن الدين يحافظ على سلامة وسلمية هذه الثنائية وحمايتها من الصراع.
أنه سيظل الحامي لاستقلالية الهوية ولا أقصد الاستقلالية هنا «استقلال النموذج» إنما مٌضاف إلى ذلك استقلال الكينونة في وصفها الاعتباري الحاكم، وهو بذلك ارتبط بسلطة التمييز و الاختلاف، وهي السلطة الأصلية لقيمة التنوع وحكمها.
كما أنه الممثل للقيمة الأعلوية التي يؤسس في ضوئها معايير التواجد و السلطة والتمكين، أو أقرب إلى توصيف الواقع الذي يؤسس في ضوئها مبررات التواجد و السلطة والتمكين، وهذا السبب الذي تٌبنى عليه فكرة «التبشير» و تنتج منها فكرة الصراع بين الأديان،أو الصراع على الله.
إن فكرة الصراع الديني أو الصراع بين الأديان هي فكرة قديمة الأزل، فبعد ظهور المسيحية بعد اليهودية حدث صراع بين أصحاب الديانتين، وبعد ظهور الإسلام حدث صراع بين الديانات الثلاثة، وقد أوضح القرآن الكريم هذا الثيمة الصراعية من خلال قوله تعالى «ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى»-البقرة،120-
و نستنتج من الآية الكريمة أن الصراع ليس صراعا بين الأديان إنما هو صراع بين أصحاب الأديان، وهو ما يعني الانتقال من الدين المؤسِس على صدقية الهدى المطلقة إلى الديني الذي يؤسس في كل زمان على مبررات الهيمنة و السلطة و التمكين وإلغاء الآخر أو الاستحواذ على عقيدته كمؤثر وفاعل لإعادة أو تجديد حركة الدورة الحضارية.
كانت الأديان هي مؤسِسات الحضارات عبر التاريخ الإنساني بدءا بالحضارة اليهودية ثم الحضارة المسيحية ثم الحضارة الإسلامية، وبعد غياب الحضارة الإسلامية و وقوع أوروبا في عصور الظلام وهيمنة الكنيسة المسيحية انتفض التنويريون ضد تلك العصور وضد الكنيسة ليصنعوا عصر التنوير من خلال إحياء التراث القديم، وهو عصر بُني على المادية البحتة بعيدا على أي دين،ثم جاء عصر النهضة وعصر الصناعة وعصر العلمانية و العولمة، لتصنع بالتراكمية حضارة غربية.
إن تأسيس قيم حياتية وأفكار وأسلوب حياة على نظريات فكرية متحركة لا تصنع حضارة أصلية لأن الحضارة الأصلية تنبني على أساس ثابت مثل الدين، ولذا نجد من فترة لأخرى في أمريكا والغرب ارتدادا نحو اليمين الديني المتطرف، ورفض كل تجسيد أو تعبير قد يشوه الشكلانية العامة لقيم حضارته.
وهذه الثيمة تنقلنا إلى أشهر نظريات القرن وهي نظرية» صدام الحضارات و إعادة بناء النظام العالمي» لصموئيل هنتجتون، وخصت هذه النظرية «الحضارة الإسلامية» التي تمثل في رأي صاحبها التحدي الأكبر للحضارة الغربية.
ومنذ الوهلة الأولى لهيكلة هذه النظرية سنجد أن هناك تقابلا غير متكافئ بين الحضارتين، فالأولى تبنى على الدين و الثانية تبنى على مجموع من النظريات ذات صلاحية زمنية محددة وقابلة للتجريب مما يجعلنا بين ثابت و متحرك.
وقد يرى البعض أن المقابلة هنا ليست قائمة على الأصل إنما على مجموع القيم التي تشكل أسلوب الحياة و التفكير.
ولو كان هذا المقصد فهو أيضا لا يخلو من إحاطات التفسير، فمن هو المقابل لنموذج الحضارة الغربية،أهو النموذج الأعلوي للقيم الإسلامية الذي صنع أعظم حضارة إنسانية استفاد منها الغرب، أم المقابل الشرائح التعبيرية الممثلة اليوم للعالم العربي و الإسلامي و التي تتصف بالجهل و التخلف و التطرف؟
والحقيقة أن الأمرين معا، وهو ما يمثل خطر على الحضارة الغربية «وسأفصل هذا لاحقا».
ولاشك أن لتأسيس هذه النظرية التي وضعت «الإسلام» الممثل في تشريعاته و قيمه وأسلوب حياتية كعدو محتمل أمام الحضارة الغربية أسبابها و ما ترتب عليها بعد ذلك من نتائج.