د. عبد الملك بن إبراهيم الجندل
المقصف المدرسي.. وما أدراك مالمقصف المدرسي!! ذلك المكان الذي نتذكره، ونربطه بما يسمى (شريعة الغاب) حيث القوي يأكل الضعيف، فلا مكان فيه للضعفاء، يذكرك بقصة ابنتي شعيب عليه السلام، اللتين لا تسقيا حتى ينتهي الرعاء، وأبوهما شيخ كبير، والضعفاء وأنا منهم ذو العود النحيل، لا نستطيع الشراء حتى ينتهي الأقوياء، وليس لنا من مُعين، وعزاؤنا الشراء آخر الفسحة، والويل لمن يتأخر بعد ذلك عن الحصة.
وبعض الأحيان نستطيع الشراء من المقصف مبكرين، حين نستعين بأحد الأقوياء، وذلك العون والمدد يكون بمقابل وأحيانا دون مقابل، فإن كان لك صديق (فتوة) فسيتشري لك، أو يفسح لك الطريق، أو مقابل وعد منك (جغمه، أو عرمه) عند شراء ذلك (الفتوة) لك.
وعندما أتذكر ذلك فإني آسى على تربية لم تنتبه لتلك المواقف السلبية، والتي تأثر بها المجتمع فيما بعد، حيث لا تجد للطابور (السرا) مكانا في أكثر الأماكن، إلا بوجود منظم (سكرتي) أو أعمدة حديدية، أو أرقام إلكترونية.
حضرت الذكريات وتجددت عن المقصف المدرسي، كأني أشاهدها ماثلة أمامي، وذلك عندما استفسر ابني الصغير ذي الست سنوات، في الصف الأول الابتدائي مستغرباً:
(أبي.. لماذا مقصف المدرسة يبيع هذا المنتج بأربعة ريالات، وهو يباع في البقالة بريالين!!).
لم أستطع التصديق وأمرت ابني بالتأكد، إذ لا يمكن - حسب تصوري- أن يقع الفساد داخل الأسوار المدرسية التربوية! وعاد إلي مرة أخرى مؤكداً ما أخبرني به، وذهبت بنفسي إلى المقصف، ووجدت الأمر حقيقة، إذ يباع بأكثر من سعر السوق بنسبة 100% ووجت كذلك منتجاً آخر مشهوراً يباع في الخارج بريال، وصاحب المقصف يبيعه على أطفالنا الأبرياء بريالين؟
أصبتُ بالدهشة والحيرة، فكيف نربي طلابنا داخل الصف المدرسي وهم في سني عمرهم الأولى على الأخلاق الفاضلة، والكسب الحلال، وعدم استغلال الآخرين ونقرأ عليهم الآيات الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والقصص والمواقف التي تبرهن على ما نقول، وعندما يخرج الطالب إلى فناء المدرسة يجد التربية العملية التي تحث على الغش والتحايل والكسب غير المشروع؟ متناقضات خاصة بالمقصف تحصل لأبنائنا الصغار حديثا، كما حصلت لنا ونحن صغار قديماً.
وبعد نقاش مع ابني أفهمته أن عمل المقصف برفع السعر تجاوز للنظام، وأن ذلك التجاوز يجب ألا نعتبره الأصل والقدوة، فهز ابني رأسه دلالة الموافقة، وليتني أستطيع الغوص في تفكيره، لأرى هل كلامي سيغير من قناعاته، بناء على انعدام القدوة في المدرسة.
ومن الناحية العملية تم تبليغ الإدارة لاتخاذ الاجراءات المناسبة، وأتوقع أن القضية عامة ليست قضية مدرسة واحدة، لذا لابد من قواعد تنظيمية خاصة بسعر المنتجات التي يبيعها المقصف المدرسي، وألا ينظر للمقصف أنه المصدر الأساس لدعم المدرسة ماديا، إنما لتوفير ما يحتاجه الطالب بأسعار مناسبة، وبالمقابل إقرار جزاءات تأديبية رادعة لمن يتجاوز السعر، حتى لا يكون المقصف معول هدم لأهداف المدرسة التي أنشئت من أجلها، فالبناء التربوي يحتاج لوقت طويل، أما الهدم التربوي ففي وقت قصير جدا.
تجربة.. دولة خليلجية تولت فيها احدى المؤسسات الإنسانية الاشراف على المقاصف المدرسية، وكان من أهم أهدافها: توفير وجبة غذائية صحية للطالب، وبأسعار مناسبة، فهل ترى مدارسنا النور لمثل تلك المبادرات، وتكون واقعا لا حبرا على ورق.
ختاماً.. قضية واحدة تتعلق بانعدام القدوة، حيث مخالفة القول للعمل.. قضية خاصة بالمقصف المدرسي.. قضية بالنسبة لي ذكريات حول الانتظام، وواقع معاش لابني حول الأسعار.. وسؤالي: هل سيعيد التاريخ نفسه بعد بضع سنين أو عشراتها، ليروي ابني لابنه (حفيدي) ذكرياته حول المقصف عندما يرصد مخالفة المقصف مع ابنه؟