الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
ساهم الوقف الإسلامي عبر التاريخ في تقديم الخدمات العامة للإنسان في مختلف مجالات الحياة. وتعددت الأوقاف في المجتمعات الإسلامية بحسب المصالح العامة للناس، ومن ذلك العناية بالوقف الصحي الذي يحقق جانبًا مهمًّا من جوانب التكافل الاجتماعي. وقد اهتم المسلمون بالصحة العامة اهتمامًا عظيمًا، وتمثل ذلك فيما وقفوه من الأموال لإنشاء المستشفيات والدور الصحية.
وللوقف الصحي وظيفة اجتماعية، تبدو ضرورية في الوقت الحاضر نظرًا لعدم توافر الخدمات الطبية لكل البشر، وبخاصة الفقراء والمساكين وممن تتطلب حالتهم رعاية طبية مستمرة.
والتجربة الإسلامية العريقة في مجال الوقف الصحي يمكن تكرارها على الرغم من تراجع الوقف في العصور الأخيرة، واقتصاره على بعض الأعمال الخيرية، كبناء المساجد والأضاحي وغيرهما.
«الجزيرة» طرحت قضية الوقف الصحي على عدد من الخبراء وذوي الاختصاص في هذا الشأن؛ باعتباره يمثل موردًا إضافيًّا ممولاً للإيفاء بأهداف التنمية البشرية، ويتزامن مع رؤية المملكة 2030 الرامية إلى العناية والرعاية بصحة الإنسان في المجتمع.
وجود قنوات
يقول الدكتور محمد بن إبراهيم الرومي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود بالرياض: المتأمل لتاريخ الوقف في الإسلام يجد أن الأوقاف شملت جميع مجالات الحياة التي تمثل ضرورة للمسلمين في هذا العصر؛ فكانت الأوقاف على طلبة العلم، والأيتام، والمرضى، والعجزة، والفقراء، وبناء المساجد، ودور تحفيظ القرآن الكريم، والسقيا، وإطعام المساكين، والمكتبات، ودور العلم، وغيرها من المجالات. ولأن لكل عصر ظروفه ومشاكله واحتياجات الناس فقد تراجعت بعض المجالات، ولاسيما تلك التي تكفلت الدولة بالجزء الأكبر منها، مثل بناء المدارس والمساجد. ومن الطبيعي أن تبرز مجالات أخرى، يجدر الوقف عليها، ودعم جهود الدولة فيها. والمتأمل يجد أن أنشطة التأهيل الاجتماعي، والرعاية الصحية، والتعليم والإعلام الإسلامي، وما تتطلبه من ميزانيات ضخمة، في مقدمة المجالات المعاصرة المستحقة للوقف عليها. ولا حرج في ذلك؛ فتعدي نفع الأوقاف واستمراره في حياة الواقف وبعد مماته أمر حاصل، بل إن أعداد المستفيدين من هذه المجالات أكبر ومتزايدة؛ وبالتالي ثواب صاحب الوقف.
ويضيف د. الرومي: لكن تبقى هناك ضرورة وجود قنوات أكبر للتواصل بين الجهات المسؤولة عن الأوقاف الخيرية، وجميع قطاعات المجتمع الأخرى؛ للوقوف على الاحتياجات الضرورية، وإيجاد الآليات اللازمة لتفعيل إسهامات الوقف في تلبيتها، ودعوة جميع الموسرين والمحسنين للوقف عليها، وتعريفهم بالنفع العظيم لها، والثواب والأجر اللذين ينتظرانهم. كذلك بيان ضوابط إنفاق الأموال الموقوفة على هذه المجالات بما يضمن وصولها للمستحقين لها.
مدن طبية وقفية
ويشير د. سليمان بن صالح الطفيل كبير الاقتصاديين بوزارة المالية سابقًا وعضو ومستشار في مركز (واقف) إلى أنه ليس هناك حدودٌ للتنمية الوقفية طالما أن مصارفها تصبُّ في أبواب الخير كافة. ومن أروع صور التنمية الوقفية وأكثرها مساسًا بحياة الفرد والمجتمع الأوقاف الصحية؛ إذ ظهرت قديمًا صور عديدة للماستانات والبيمارستانا والحمامات العامة للعلاج في العديد من الدول الإسلامية والعربية، منها على وجه الخصوص كما في بلاد الشام والرافدين ومصر. وما زال بعضها قائمًا إلى وقتنا الحاضر منذ مئات السنين، وتقوم بخدمة الناس المرضى ومرافقيهم ورعايتهم.. ومن أشهر الأوقاف الصحية: مستشفى الوليد بن عبد الملك سنة 88 هجرية في دمشق، ومستشفى الرشيد في بغداد سنة 193 هجرية، ومستشفى أم الخليفة المقتدر بالله ببغداد 203 هجرية، ومستشفى النوري الكبير بدمشق 568 هجرية، ومستشفى قلاوون بمصر بمدينة القاهرة 673 هجرية.لقد توالت المستشفيات الوقفية الكبيرة والصغيرة وحتى مراكز العلاج المتنقلة بين المدن، وظهرت مدن طبية وقفية بأكملها كما في سوق المارستان ببغداد، وهو مجمع للعيادات والصيدليات ومساكن للأطباء والمرافقين للمرضى في أحد أحياء بغداد. وليست الأوقاف الصحية قاصرة على بناء المستشفيات وتجهيزها وتوفير العلاج ورعاية المرضى وتسكين المرافقين فقط، بل اهتمت الأوقاف الصحية بالتعليم الطبي والبعثات العلمية الطبية ورعايتها.
الصندوق المتعثر
ويؤكد د. الطفيل أن هناك نماذج كثيرة في عصرنا الحاضر -ولله الحمد- من ملوك وأمراء وموسرين ومن عامة الناس، وهبوا بعضًا من أموالهم في الأوقاف الصحية، وساهموا فيها، وكانت وسائل التقنية الحديثة وتطور الأدوات التمويلية والصناديق الاستثمارية من أهم مجالات دعم الأوقاف الصحية؛ إذ تسهم هذه القنوات في التسهيل على الناس وقف أموالهم في شكل تحويلات أو مساهمات أو أسهم وقفية حتى أصبحت الأوقاف دعامة أساسية من دعائم التنمية البشرية في المجتمعات الإسلامية. وبهذه المناسبة ندعو إلى إطلاق صندوق الوقف الصحي الذي وُقِّعت اتفاقيته بين وزارة الشؤون الإسلامية ووزارة الصحة قبل 15 سنة تقريبًا، ولم يرَ النور حتى الآن!! والذي يرمي إلى تأسيس صندوق وقفي صحي تشارك فيه الدولة، ويشارك فيه أهل الخير في المجتمع، وذلك من خلال أسهم وقفية، تُخصَّص في دعم القطاع الصحي للعلاج والوقاية والرعاية، وتُبنى من خلاله مستشفيات ومراكز طبية بمدن وهجر عدة.
مشاركة الأوقاف في البنية التحتية للقطاع الصحي وفي الخدمات والرعاية الصحية أصبحت اليوم مطلبًا مهمًّا من أهم المطالب التي يحتاج إليها المجتمع للمشاركة والتعاون على الخير، وبخاصة إذا ما أدركنا حجم توسع مطالب النفقات الصحية اليوم، وتنوُّع احتياجات الناس لهذه الخدمات. كما أن رؤية 2030 م تتجه إلى رفع معدلات مستوى الصحة في المملكة، ورفع متوسط عمر الحياة لكل مواطن إلى 80 سنة؛ وهذا مدعاة لتكاتف الجهود على المستويات كافة من الدولة والقطاع الخاص والقطاع الثالث والأفراد للمشاركة في هذا العمل الجليل، ألا وهو الوقف الصحي. إنه أجر دائم، ومجتمع قوي.
أهميته في المجتمع
ويبيِّن د. شاكر بن عبدالعزيز العمري استشاري طب الأسرة أن المملكة تشهد نموًّا سكانيًّا وتقدمًا حضاريًّا وصحيًّا.. وقد برزت جهود الدولة بتوفير وتقديم الخدمات الصحية لجميع المواطنين. ومع التطور الطبي قلّت الأمراض المعدية - ولله الحمد - ولكن على الصعيد الآخر مع التغير في نمط الحياة زاد انتشار العديد من الأمراض غير المعدية، كداء السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والكلى.. وغيرها؛ إذ أصبحت تشكل عبئًا اقتصاديًّا وصحيًّا واجتماعيًّا؛ ما أثر على النظام الصحي والخدمات المقدمة.
لقد حثنا ديننا الحنيف على التراحم والتكافل؛ إذ يرحم الكبير فيه الصغير، ويعطف فيه الغني على الفقير.. فالله - عز وجل - حين خلق الإنسان يسَّر له سبل السعادة والفلاح في الدارين؛ فأرسل الرسل لهدايته إلى الطريق المستقيم الذي يوصله إلى جنته؛ فجاءت شرائع الله سبحانه محققة لمصالح العباد.. فشرع له فعل الطاعات وترك المنهيات في حياته تقربًا إليه لمرضاته. ولم تقتصر شرائع الله على تحصيل الأعمال الصالحة في فترة الحياة فقط؛ فقد شرع له من الوسائل والأسباب ما يحقق له تلك الغاية بعد مماته، وهي الصدقات الجارية؛ قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (92) سورة آل عمران، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
والوقف معناه لغة: الحبس والمنع. والوقف مصدر أوقف، والجمع أوقاف. يقال: «وقفت الدار وقفًا» أي حبستها في سبيل الله.
أما تعريف الصحة وفقًا لتعريف منظمة الصحة العالمية في إعلان لمبادئ الرعاية الصحية الأولية عام 1978م فهي حالة من اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية، وليس مجرد غياب أو انعدام للمرض أو العجز.
ومع زيادة تكاليف الخدمات الصحية يعتبر الوقف الصحي أحد مجالات الأوقاف المهمة في المجتمع؛ إذ أصبح الجميع بحاجة إلى الرعاية الطبية الأساسية التي تضمن لهم المحافظة على صحتهم، سواء على المستوى الوقائي أو العلاجي.. فالمجالات كثيرة ومتعددة، كإنشاء مراكز طبية خيرية وتوفير الأدوية والأجهزة الطبية أو الأبحاث والدراسات في المجال الطبي أو مراكز غسيل الكلى وعلاج السرطان.. وغيرها من الأمثلة، خاصة في المناطق البعيدة والنائية التي لا تتوافر فيها جميع الخدمات الطبية.
ولرجال الأعمال دور كبير في الوقف الصحي حول العالم. وفي مملكتنا الحبيبة - ولله الحمد - يوجد لدينا العديد من الأمثلة في هذا المجال، وما زلنا بحاجة للمزيد منها في مختلف المجالات والخدمات الصحية؛ لذا يجب على الدولة - حفظها الله - تشجيع وحث المزيد من رجال الأعمال وتسهيل مهمتهم في هذا المجال.
تأمين العلاج
ونادى الأستاذ محمد بن صالح الحمادي المدير التنفيذي لمستشفيات الحمادي بالرياض إلى إنشاء أوقاف للخدمات الصحية؛ إذ إن هذه الخطوة الإيجابية من شأنها أن تسهم - بإذن الله - في مساعدة المرضى الذين يعانون بعض الأمراض المزمنة والمستعصية، ويكلف علاجهم الشيء الكثير، الذي يفوق قدرتهم المالية؛ ما يشكّل لهم عبئًا آخر يُضاف إلى وطأة المرض وقسوته. ونحن كمجتمع إسلامي، تسوده الرحمة والتعاون على الخير والبر، ينبغي الاضطلاع بذلك وتشجيعه. ولتفعيل هذه الدعوة، وزيادة إسهام الوقف في مجال الصحة باعتباره من الضرورات في هذا العصر، نأمل من الموسرين الإسهام في ذلك المشروع، وكذلك من المحسنين وأهل الخير والمال والأعمال، وتخصيص أوقاف للرعاية الصحية بأن يشمل الوقف الصحي أمورًا عديدة، لا تقتصر على العلاج فقط، إنما تشمل الدراسات والبحوث الطبية والحملات الطبية الخاصة لمكافحة بعض الأمراض الخاصة في بعض المناطق، والحملات الطبية الخاصة بالتوعية الصحية، إلى جانب تأمين العلاج للمرضى المحتاجين، والإسهام في تكاليف استقطاب الأطباء أو الفنيين في بعض المراكز، وتأمين الأجهزة الطبية، كغسيل الكلى والأشعة، وغيرها من التجهيزات الضرورية.
ويضيف الأستاذ محمد الحمادي: وفي الوقت نفسه ندعو المستثمرين في القطاع الصحي إلى العمل على التفاعل بتخصيص خصومات خاصة للبرنامج، وللمرضى الذين يتبنى علاجهم ضمن برنامج الوقف الصحي؛ وذلك من منطلق التعاون على البر والتقوى، وما تقتضيه المصلحة العامة، وقبل ذلك الواجب الديني والوطني. ومناحي الرحمة والتراحم بين الناس عديدة، وكفالة المرضى وعلاجهم أو المساهمة فيه باب من هذه الأبواب الواسعة والمتعددة، وفيه جانب ديني وإنساني؛ لأنه رحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة بقضاء حوائجهم ومساعدتهم وتفريج الكرب عنهم.. وهي من صور الرحمة التي لم تؤطر في عمل مؤسسي خاص؛ ذلك أننا نرى مؤسسات خيرية تقوم على الكساء والغذاء والمساعدة في الزواج والأعمال الخيرية، إلا أننا لا نرى إلا القليل في هذا الجانب.