د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الطبيب الهادف للحفاظ على الصحة أو استعادتها كان دائماً محلّ تبجيل وتقدير، ويُعدّ الطب من أشرف المهن، وعبر التاريخ كله كان من المتعارف عليه أن يتقاضى الطبيب الحاذق العارف والملتزم بأصول مهنته أجراً لقاء ما يقدّمه من خدمة طبية ينفع بها مريضه. والطبيب - مثل المهندس والمعلم والمحامي - يكسب رزقه من ممارسة مهنة معينة تعلّمها وحذقها بالتدريب، فهو لهذا مهنيّ لأنه ينتج عملاً من علمه ومهاراته يلتزم فيه بما تتطلّبه المهنة من جودة وأخلاقيات ولا يخرج فيه عن أصول مهنته. وأدوات المهنة هذه (العلم والمهارات والجودة والأخلاقيات) تجعله يؤدّي العمل كما لو كان جزءاً من ذاته، وما يكسبه من أجر إنما يكافئ قيمة عمله وما سخّر في إنتاجه من علمه ومهاراته (وحده أو مع غيره) وما استخدم فيه من مواد. وفي هذا هو يختلف عن التاجر الذي لا يبيع مُنتجاً من عمله، بل بضاعة جاهزة أنتجها غيره، ولذا فإن طبيعة عمله تتطلّب أن يحصل على مكسبه من الربح الزائد عن تكلفة البضاعة. غير أن مهنة الطب - لمن لا ينظر إليها إلا من حيث أنها كنزٌ من الذهب - تغري بالخروج عن أصول المهنة وأخلاقياتها لجني مزيد من المكاسب المادية، فينقلب الهدف المهني إلى هدف تجاري يسعى للربح، ويتحول الطب من مهنة إلى تجارة - سواء تم ذلك من بعض أطباء ممارسين بذاتهم أو من قطاع المستثمرين - مثل ملّاك المؤسسات الصحية ومؤسسات التأمين - أو من المحتالين بأساليب الغش والدجل (من المنتمين للمهنة أو الدخلاء عليها).
الطبيب الممارس:- وأعني هنا الذين يقصدون تجاوز النظم وأصول المهنة لزيادة مكاسبهم بإجراءات طبية لا ضرورة لها - مثل المبالغة في الأدوية والفحوصات أو تنويم حالات عادية - أو لا يبالون بعدم جدواها أو ضررها ما دام المرضى يطلبونها - لا سيما في مجال التجميل أو علاج العقم أو الضعف الجنسي أو العلاج بالخلايا الجذعية..الخ. والبعض قد يبالغ في المخاطرة ويتجاهل دواعي الاستطباب أو ضوابط السلامة والجودة في إجراء عمليات مثل الولادة القيصرية وعمليات علاج السمنة أو زرع الأعضاء. ومسؤولية الطبيب قائمة حتى لو كان منصاعاً لمن هو أعلى منه. وليس بعيداً عن الممارسة التجارية في الطب تفضيل المريض الذي يدفع من جيبه أو من تأمين خاص على غيره في المواعيد أو مستوى العناية الطبية، وكذا تسرّب الطبيب خلال عمله الحكومي للعمل بمرفق طبي خاص.
المستثمرون :- نماذج من سيطرة الجانب التجاري على الجانب المهني:
مثال1- تقديم الرعاية الطبية من خلال مؤسسة طبية خاصة ربحية - أي باستثناء غير الربحية مثل الأوقاف ونحوها - ويكون الهدف التشغيلي الأول هو تحقيق الربح بأي ثمن دون اعتبار لمصلحة المرضى أو الأهداف المهنية أو لحقوق الأطقم الطبية. (كتبت بهذه الصحيفة حول نموذج لتخصيص المستشفيات ينبغي عدم تطبيقه بتاريخ 11-4-1438هـ)
مثال2- شركات التأمين: الهدف من التأمين الطبي هو توزيع المخاطر بين المؤمن لهم - صغاراً وكباراً، أصحاء ومرضى - من خلال أقساط محسوبة يدفعونها من أجل تيسير الحصول على الخدمة الطبية الجيدة التي يحتاجونها. إلا أنه يدور صراع فوق رؤوس المرضى بين شركات التأمين التي لا تريد الخسارة (ومن بينها شركات التأمين التجاري التي تهدف للربح أصلاً) - إما من خلال تخفيض الخدمات أو تخفيض فاتورة الدفع أو الابتزاز عن طريق اشتراط أسعار مخفضة للخدمات (اشترطت إحدى الشركات من مجمع طبي خاص أن يكون سعر الكشف ستة ريالات فقط)، وبين مقدمي الخدمات من مستشفيات ومجمعات طبية الذين يريدون إيرادات مجزية من خلال نظامهم التسعيري أو من عمل إجراءات طبية غير مفيدة، لكنها مربحة. هذا الصراع يحرف الهدف الإنساني الطبي من التأمين إلى متاهات تجارية.
مثال3 - تجارة الأدوية والأجهزة الطبية تجارة فعلية وطبيعية، إذ تُصنّع فيها السلع وتباع لأغراض طبية، وأسعارها غالباً تخضع لتكلفة التصنيع وقوانين الدولة وعوامل السوق. لكنها تتحوّل إلى مجرد تجارة في مهنة الطب عندما تموّل شركات الأدوية والأجهزة الطبية تجارب طبية لإبراز نتائج إيجابية - وهمية أو منحازة أو متعجلة - يكون الغرض منها التسويق لأدوية أو أجهزة معينة، أو تدفع مكافآت أو تعطى حسومات مقابل وصف أدويتها أو استخدام أجهزتها.
المتاجرة في الطب بالاحتيال والشعوذة:-
من ممارسي أساليب الشعوذة المعروفة من أقدم الأزمان أولئك الذين يدّعون الطب بجهالة أو يخلطون علاجاً مزعوماً بالسحر أو بطقوس دينية، ومثلهم من يخلط اليوم أعشاباً أو بذوراً بأدوية حقيقية ويسوّقونها كعلاج شعبي ناجع. لكن هناك من درس الطب أو شيئاً من علومه ويستخدم معارفه في الدجل الطبي، إما بغش الأدوية أو بإجراء طبي لم يتعلمه أو بالغش في العلاج نفسه مثل علاج العقم بأنسجة طرف ثالث، وإما بالمتاجرة بالأعضاء البشرية أو سرقتها غصباً. كل ذلك جرائم جنائية لا يدخل فيها شيء من أصول المهنة ولا أخلاقياتها، وإنما هي تدخل في طب الشعوذة حسب تصنيف الدكتور محمد المفرح في كتابه (طب المشعوذين) - صدر عام 1437هـ.
الخلاصة: إلى أين ؟
يتركّز اهتمام المجتمع بنواحي القصور التي يراها في الخدمات الصحية بالقطاع العام - مثل نقص الأسرة أو تباعد المواعيد أو الزحام أو الواسطة والمحسوبية أو نقص الأدوية في المراكز الصحية وتدني مستوى الخدمة فيها - ويرى البعض أن لا خلاص من ذلك إلا بالهروب إلى القطاع الطبي الخاص بوسيلة التأمين الصحي. وإذا كانت تلك السلبيات من الخصائص الملازمة للقطاع العام في نظر البعض، وأن اتجاه القطاع الخاص هو إلى التوسع والانتشار - مدفوعاً باتساع فرص الاستثمار نتيجة لبرامج التأمين الصحي وبرامج التخصيص المعلن عنها ضمن مبادرات التحول الوطني - فإن من اللازم أن يتخلّى المجتمع عن اعتبار القطاع الطبي الخاص خالياً من السلبيات؛ فالواقع ليس كذلك. وما استعرضته في هذا المقال من أعراض تجارة الطب يبيّن أن الهجوم على مهنة الطب يهدّدها من عدة جبهات. من جبهة بعض الممارسين الخارجين على أصول المهنة ومن بعض شركات التأمين ومن بعض أصحاب المرافق الطبية الخاصة ومن مروّجين لأدوية مغشوشة ومن مشعوذين. ولذلك لابدّ من تحرير مهنة الطب من أساليب الممارسة التجارية بجميع درجاتها. وإذا كان وزير التجارة فوجئ بحجم وانتشار الغش في الأدوية والأطعمة، كما قال أمام الغرفة التجارية في جدة (عبدالعزيز السويد - الحياة - 11-5-1438هـ)، فلعل هذا مؤشر صحوة فيما يخص مكافحة جانب من تجارة الطب. والجوانب الأخرى لا تقلّ أهمية عن ذلك. ليس عندنا نقص في أجهزة الرقابة والمتابعة ثم المكافحة: المجلس الوطني لاعتماد المنشآت الصحية - مجلس الضمان الصحي - إدارات المتابعة وإدارات الرخص الطبية بوزارة الصحة - المباحث الإدارية - هيئة النزاهة ومكافحة الفساد - هيئة الغذاء والدواء - الهيئة السعودية للتخصصات الصحية - الجمعيات الطبية والصيدلية - المجلس الصحي السعودي. إن ما ينقصنا هو المعايير الدقيقة للممارسة واللوائح المفصلة الواضحه لتنظيم المهنة، وأن تعمل الأجهزة المذكورة معاً على وضع نظام رقابي فعّال. إن كثيراً من المخالفات تنفذ من خلال ثغرات النظام والرقابة.