د.عائض محمد آل ربيع
إن المتابع للتيارات الفكرية المتباينة في إيران اليوم، يلحظ ظهور تيار له حضور قوي على الساحة الإيرانية، يؤمن بإحياء الهوية الإيرانية والتخلُّص من كل ما يمتُّ إلى العرب بصلة، وأهم تلك الروابط «اللغة العربية».
تعود جذور هذا التيار إلى بداية دخول الإسلام إيران، وهو يحاول إيصال فكرة تقوم على أن مبدأ قبول الإسلام ديناً للأغلبية لا يشترط فيه القبول بالعرب أصحاب هذه اللغة ولا القبول بلغتهم، فالعرب يُوسَمون في كثيرٍ من التراث الفارسي وفي كثير من الكتب والمقالات والصحف اليوم بكلمة: «تازيان»، التي تعني في الفارسية «الغزاة»، وبالتالي يسمون العربية «زبان تازى»، أي لغة الغزاة بالرغم من أن لديهم كلمة «عربي» التي تقابل كلمة «العربية» والبعض من الفرس يستخدم مصطلح آخر ليس أقل من الأول احتقاراً فيسمونهم «أعراب».
هذا الفكر يتجلَّى بوضوح في كتب التراث الفارسية وأهمها كتب الأدب، وأبرز أمثلتها الشاهنامه (رسالة الملوك)، التي نظمها الشاعر الشعوبي الفردوسي في «60.000» بيت، في القرن الرابع الهجري، ففضلاً عن ما تحتويه من تحقير للجنس العربي في مقابل الجنس الفارسي فقد حرص فيه على التخلص من الكلمات العربية.
بالانتقال إلى العصر الحديث الذي يوازي تقريباً حكم الدولة القاجارية التي قامت في إيران على أنقاض الدولة الصفوية، تم إحياء النزعة الفارسية مرة أخرى، مترافقاً مع نشاط معادي للغة العربية.
لم يكن هذا التيار فصيلاً واحداً، فثمة فصيل دَيْدَنُهُ «تغيير الأبجدية العربية»؛ ويرى أنها أكبر عائق أمام تقدم المجتمع؛ يدخل تحت راية هذا التيار أمراء ومثقفون، وهناك فصيل آخر يرى «تنقية الفارسية من الكلمات العربية».
الفصيل الأخير وصل أوجه في عهد «رضا شاه»، فتم تأسيس مجمع اللغة الفارسية؛ يقول رئيس هذا المجمع فروغي»يعد اختلاط الفارسية بالعربية نقصاً؛ ذلك أن الأصل في أي لغة هو أن تكون منزهة عن العناصر الأجنبية» وقد استمر هذا التيار في جهوده تلك حتى قيام الثورة الإسلامية.
ولأن الثورة استقرَّت في يد عدد من الملالي، والنظام مبني على فكرة قيادة الولي الفقيه للدولة، واللغة العربية أساسية في تدرج الفقيه في سلم درجاته العلمية؛ كان من الطبيعي أن يكون للغة العربية دورٌ في حياة المجتمع في النظام الجديد، كما أن الدستور قد نصَّ في المبدأ 16 منه على «أن اللغة العربية لغة القرآن، ومعارف الإسلام وعلومه قد كتبت بها، وقد اندمج الأدب الفارسي بها بشكل كامل، فيجب تدريسها في جميع المدارس من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة المتوسطة».
لكنَّ مؤيِّدي هذا النظام- وإن قبل بنظام الولي الفقيه- يجد صعوبة في قبوله بالعربية؛ لذا من الصعوبة الجمع بين المشروعية التي استمدَّها النظام من كونه إسلامياً وفي نفس الوقت يراعي النزعة العنصرية الكامنة الثابتة لدى الفرس، التي تعتقد أفضلية الجنس الفارسي على غيره من الأجناس، وبخاصة العرب، مما جعل النظام الإيراني يتعايش مع أرباب هذا الفكر من باب القبول بالواقع.
يمكن إدراك مدى اتساع هذا الفكر حتى في مواقف قادة النظام الإيراني وأحاديثهم وهو ما يدل على أن هناك حاجة بل وأهمية لتحريك الجانب العنصري في الخطاب الإعلامي؛ على سبيل المثال الرئيس الإيراني محمد خاتمي يُمتدح بأنه معتدل ومثقف ومؤسس حوار الحضارات والثقافات؛ نجده يقول في لقائه بالإيرانيين المقيمين في أمريكا: «نحن إيرانيون مسلمون ولسنا عرباً».
لم تَمض سنوات حتى ظهر مستشار الرئيس»أحمدي نجاد» في نفس الجمع يقول: «الوثائق التاريخية تشير إلى أن العرب مديونون للإيرانيين حتى في ازدهار لغتهم، وما من شك في أنه لولا الإيرانيون لكان الإسلام اليوم مدفوناً بسبب أوهام القومية العربية».
بدأ هذا النشاط في نهاية حكم «خاتمي» وبداية حكم «نجاد» بذريعة حماية اللغة الفارسية، متمثلاً في عددٍ من المفكرين الإيرانيين المؤثرين، وأساتذة الجامعات الإيرانية، وبعض الإيرانيين المقيمين في الغرب، فقاموا بتشكيل مجمع لغوي مقابل للمجمع الفارسي الحكومي وبهذا يستطيع النظام الإيراني دفع التهمة عن نفسه بأن هذا المجمع ليس المجمع التابع للحكومة وبالتالي يكون هذا المجمع الوجه القومي الفارسي للبلاد.
لكن مثل هذه المشاريع تواجه عدة عقبات على عدة مستويات، فعلى المستوى الخارجي تتمتع إيران بعلاقات مع بعض الأنظمة المتشدقة بالقومية العربية مثل سوريا، يقول ممثل الولي الفقيه في خوزستان حول جهود المجمع اللغوي الحكومي في التخلص من الكلمات العربية:»اللغة العربية مهمة؛ لأننا نعيش في منطقة يتحدث أهلها بالعربية»، ويضيف: «أنا أعتب على مجمع اللغة الفارسية، وعتبي يخص الكلمات الفارسية التي لها جذر عربي وكثير من ميراثنا الأدبي والثقافي قد كتب بها، وهو ما يجعل الجيل القادم منفصلاً عن موروثه..وهذه خيانة له».
وأما على المستوى الداخلي فيصطدم ذلك مع مناهج الحوزات العلمية أحد أهم دعامات النظام الإسلامي وبقائه، وعلى المستوى اللغوي فقد أصبحت العربية ومفرداتها جزءاً لا يتجزَّأ من الفارسية، حتى عندما أراد المجمع الفارسي الحكومي التخلص من الكلمات الأجنبية استنجد بكلمات عربية دون أن يدري يقول «إدوارد براون» -مؤسس قسم اللغة الفارسية في جامعة كمبردج- عن صعوبة تطبيق ذلك: «ولو أن أحداً أراد أن يكتب شيئاً بالفارسية بحيث تكون خالية من الألفاظ العربية لتعسر عليه الأمر، كما يتعسر على الذي يريد أن يكتب شيئاً بالإنجليزية بحيث تكون كتابته خالية من كل كلمة يرجع اشتقاقها إلى أصل يوناني، أو لاتيني، أو فرنسي، وربما استطاع بعض الناس أن يفعل ذلك على نطاق ضيق؛ ولكن كتابتهم تظل عسيرة الفهم إذا لم يستعِن القارئ على فهمها بمعجم من المعاجم اللغوية».
يستنتج مما سبق أن صراع التخلص من الكلمات العربية في اللغة الفارسية له عمقه في الشخصية الفارسية؛ ولهذا تسعى وراء تحقيقه منذ أكثر من ألف سنة، لكن الواقع يجعله مستحيلا وستظل العربية متجذرة في حياة الفرس ما دامت العربية لغة القرآن وما دامت إيران تعترف بالإسلام ديناً للدولة.