د.فوزية أبو خالد
عابرة على جناح كلمة
شوارع فسيحة مفعمة بهواء طلق وسط مدينة شتائية في صيفنا صيفية في شتاءنا لكنها ممشوقة بالتشكيل والأدب والفكر والموسيقى والمسرح والسينما طوال السنة.
فنانون ينحون بتبتل على الأرصفة ويرسمون بالطباشير حياة بشرية راسية متحركة، مستقرة غادية، خيول وطائرات, بحار ويابسة، معمار وفوضى حياة صاخبة هامسة تخالها خالدة وإن كانت سريعة الزوال. عازفون أوكرديون يبكون حجارة الطريق موسيقى «أورج» متنقل تنطق أقدام المشاة بلغات شتى، نايات تأن بحنين رعاة لن يعودو,كمنجات تقطر غنج بنات لم يغادرن بيوت الأهل بعد.. أدباء يقرؤون قصصاً على جمهور متخيل، شعراء تندلع قصائدهم من شبابيك المترو من جدران المدينة وتتدلى عناقيداً من عرائش السماء. مبدعون من كل مكان يطلقون في المدى أجنحة الخيال لتظلل على مارة عابرين مثلي لفضاء مدينة الأدب عبر بوابة الشعر في المعرض الدولي للكتاب بمولبورن. تطير بنا أغاني الأدغال وبارون فيلد وأغاني الفتى العاطفي سي.جي. دانيس لنعبر عين العاصفة مع باتريك وايت الحائز على جائزة نوبل للأدب. فنتعارف في لقطة خاطفة لا تستطيع أن تلتقطها عين كاميرا الجوال على أدباء ذلك المكان البعيد من جوديث رايت إلى وديع حداد في تلاحم وصراع منذ 1788م مع وصول أسطول الإمبراطورية البريطانية وقتها وإقامة مستوطنات جديدة له في القارة البكر الواقعة على النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، جنوب شرق آسيا على غرب المحيط إلى نجاحات وفشل في إيقاف سياسة (أستراليا البيضاء) من العام 1973م إلى اليوم.
ألوح لمدينة الأدب حسب تصنيف اليونسكو عام 2008 تلويحة وداع بينما أبدأ بتعميق تلك المعرفة بتاريخها الإنساني من استقرار سكانها الأصليين /قبائل «الأبروجنل» إلى أفواج المهاجرين إليها تحت راية الاستيطان البريطاني, ومن الكفاحات التلاحمية تجاه ذلك إلى كبواتها واستجراحاتها.
أرى في مولبورن مدينة الأدب خامة الأدب البشرية وخميرة الأخيلة لتشكل ذلك الواقع السحري من عذرية الطبيعة وغطرسة الغنى وعنفوان العلم وأثمان الصناعة ولجة الاستكشاف وسيادة السلطة وتفتيت الغابات إلى مدن مسلحة وإستئناس طائر البطريق والكوي والحيايا والكنجر مع نصيبها من الاصطدامات مع آلام الفقر والطبقية والهجرة والتشرد والاستيطان ونواقضه.
فيا لزهو المدن عندما تقرر أن تصبح مدناً للأدب.
كطفلة مسحورة بفتنة المدن حين يمسها سحر الأدب كان السؤال يستبد بي لماذا لا تكون لدينا مدن للأدب لماذا لا تصبح الرياض مدينة للأدب؟!
مبحرة على موجة حبر
أما مدينة آيوه الواقعة على نهر آيوه في الوسط الغربي من أمريكا الشمالية والتي لا يزيد سكانها عن 67 ألف نسمة ولا تزيد مساحتها على ما يقارب 65 كيلو متر مربع، فقد استطاعت أن تحصل على لقب مدينة الأدب رغم بردها القارس القاسي شتاء ورغم رطوبتها العالية والتي تصل لثمانين في الماء صيفاً. ولم يكن ذلك لبهاء طبيعتها المسورة بجلال الأشجار وبسماحة الخضرة على مدار العام باستثناء الفصل الذي تتكلل فيه بطرحة الثلوج البيضاء، كما لم يكن لوقوعها في وسط غابة مسحورة من الحدائق العامة الغناء. فقد جاءت تسميتها بمدينة الأدب مرتبطة باهتمامها غير العادي بالأدب أو بالأحرى بجعل المدينة حاضنة خصبة للأدب وصدر رحب حنون يلقي عليه الأدباء بنات خيالهم المرهفة الشاهقة ووعثاء ترحالهم خلف رفيف الكلمات نصوصاً مفتوحة وشعراً ورواية وقصص. ففي آيوه ممر الأدباء الذي طرز بأسماء عدد من الأدباء ومقتطفات من كتاباتهم ممن مر بآيوى وترك على أرضها ريشة من حرير الكتابة وأشواكها سواء خرج من أرض آيوه أو جاء من خارجها وخاصة إذا كان قد أدخل جزء من سيرة المكان والسكان في حبر الإبداع لتكون آيوه في دائرة حلم الخلود أو مشحونة بطاقاته. وتقام في آيوه سنويا عدد من ورش العمل مسبقة الجدولة والتوقيت التي ليس لها من غاية غير جعل آيوه سيتي مصنعا لتزواج وتمازج طينة الواقع بأزميل الخيال لتحويلها إلى نتاج أدبي جديد. وقد دعيت في سنوات سابقة لأشارك في إحدى الورش المخصصة للقاء أدباء من أمريكا ومن أنحاء العالم والتي تقام سنوياً بين شهر سبتمبر ونوفمبر بالتعاون مع جامعة مدينة آيوه. وتقام أيضاً في آيوه عدا عن مهرجانات موسيقى الجاز وكونسرت الموسيقى السيمفونية الكلاسيكية في الهواء الطلق، مهرجانات دورية على مدار العام لأدب الفتيان وأدب الأطفال وأدب الشبيبة وتجري فيها المسابقات مثل (آرب آيدل) التي يشارك فيها التلاميذ من كل مدارس مدينة آيوه من الابتدائي للثانوي وبتحكيم وحضور أدباء كبار من كل أنحاء الولايات المتحدة وخارجها. وقد لمست بنفسي عندما قضيت شهراً في ضيافة مدينة الأدب كيف أن آيوه على بساطتها تفسح روحها للحفاوة بالشعر والأدب ليس فقط بوجود تلك المكتبة الملغومة بما لذ وطاب من مؤلفات الخيال والواقع بل وأيضاً من خلال تشجيرها لفضاء المدينة بأنواع التشكيل والرسم والنحت والفنون البصرية وبمقاطع من كلمات كبار وصغار الكتاب والشعراء ومنها قصيدة الطفل العبي السعودي عبدالرحمن بن غسان بعنوان الخريف التي فاز بها وعمره لم يتجاوز خمس سنوات في مسابقة شعر رياض الأطفال وعلقت مع أعمال أطفال أخرى على جدار مبنى البلدية وعلى الأتويبسات ووسط ساحة مقاهي المدينة وعلى ضفاف النهر مع اسم الشاعر الصغير. وكل تلك النشاطات الأدبية الخلابة تقوم على مقومات أساسية بسيطة هي حب الحرية وحب الجمال وحب الأوطان. ولم يكن آخرها اجتماع كتاب لنقاوم (Resist Writers) في مسرح إنليجرت بآيوه سيتي في ذرى مولد مارثن لوثر كينج لتجديد العهد مع قيم العدل والحرية والديموقراطية خاصة بعد فوز اليميني المتعصب السيد ترامب بالمقعد الرئاسي بالبيت الأبيض. وهي حركة بدأت من فلويردا على يد الكاتبة Erin Belieu إيرن بيليو عبر شبكات التواصل الاجتماعي وانتقلت لتتجسد من العالم الافتراضي للعالم الواقعي بمدينة الأدب.
كلمة ليست أخيرة
وبعد ليست هذه دعاية لمدن الأدب التي تناولتها أعلاه أو التي لم أتناول الكثير منها مثل أدنبرة في اسكوتلاند /بريطانيا ودبلن في إيرلاندا وسانتبيتربرغ في روسيا ومنتيفيديو في الأروجيه وغرناطة في أسبانيا وسواها ولكنها فاتح شهية للقول إن كل دول ومجتمعات العالم اليوم تطمح لأن يكون لها حضور حضاري مستقل ومؤثر بما يتمثل في مشروع سياسي واقتصادي وثقافي، أحدها أو مجتمعة إن أمكن. فهل يمكن أن يكون لنا كمجتمع ودولة سعودية مشروع حضاري متواشج (عربياً رغم التداعي) ومستقل في آن. أعتقد أننا نستطيع لو أردنا وعملنا. ولهذا فإني سأقوم بطرح شروط أن يكون لدينا مدينة للأدب تحصل على استحقاقه من برنامج اليونسكو للأمم المتحدة لمدن الأدب ضمن شبكتها للمدن المبدعة. كان الجدير أن أسمي المقال بعنوان دعوناااا نحلم فإلى الأسبوع القادم.