رمضان جريدي العنزي
تتشكل في الذاكرة بقايا الحياة التي كانت.. كنا بين نارين: عواصف الذئاب، وصفرة الرياح العاتية. تخنقنا العبرات والخوف، وتعب المكابدة، والقلق يستوطننا في لياليه الباردة، مكتنزين كنا بترقب الرماد، نبحث عن مستقر لوهج القلق، وأنفاسنا لاهثة، مسافاتنا صغيرة، وأحلامنا ضباب، ما عندنا لذة نوم، أو لذة وسن، أو لذة عافية، نهرول في شبق نحو لحظة سلام حانية، نفر مرعوبين، نسابق الريح في صحراء قاحلة، كنا نحلم كل مساء على تل يفيض بالهمس، نغرق في مدى بعيد، نلوذ بتوجس في كهوف الاختباء، نرسم أطيافًا باهتة لأحلامنا التي لا تجيء، نتطاير في الفراغ، نركض، نبحث عن جدول ماء، وعشبة يانعة، نتوسد الرمل، ونرقب صوت العادية، أحلامنا معطلة فوق صحراء جافة، كنا في ضباب من دهشة، ونسبح في عالم مجهول، يدمي القلب، ويقتل الراحلة، نسترخي قليلاً على صوت الهجيني، وجرس المرياع، ولحن الربابة، وثغاء الماشية، وسرد الحكاية التي ما اكتملت فصولها لتصبح حكاية، كانت لحظاتنا غامضة، يؤرقنا الأسى، وأجسادنا مخاتلة، والخريف غطانا بأوراقه البالية، تتدحرج الكلمات لتنحني ماثلة أمام صمتنا المطبق؛ إذ تجيء كل الصور، وينكسر الزمن في حضور الخدر الذي يدب في أجسادنا. لم تكن الحياة لامعة؛ كانت موجعة، الحر والقر يتناوبان علينا في الأيام السالفة، والرحيل المر قصيدة سفر ذابلة، والرمل ينسكب في العيون ليحيلها دامعة، وإذا ما ماتت شاة أو بعير تصبح الحياة حينذاك فاترة، والعراك حول غدير الماء هجمة فاجرة، والرمث موقد، والشيح دواء، والديحان واليهق إذا ما جاءا يورقان في الروح الحياة، مزهر هو حاضرنا الآن، له صفاء ودعة وخير وعافية وسلام.. انتهى زمن الرماد والعتمة والانكسار والفاقة، الدروب الموحشة الضيقة الملتوية كأفعى لم تعد، والذئاب التي تصرخ بالتحدي ماتت، والفيافي التي كانت تعج باللصوص تحولت إلى سندس، والنعرات دفنت، والجهل مات. لم أبصر أمامي الآن سوى اللؤلؤ والياقوت وأضواء الطرقات، الحدائق اليانعة ترتدي الثياب الخضر واللون والزركشة، ترف على مقلهن سحابة تستمطر خفقة العافية، أصبحنا نطلق في الفضاء ضحكاتنا الشامخة، أمواجها طويلة، وألفاظنا صارت عالية، تحف بنا عيون العالم، مدننا أصبحت صارخة بالإثارة، وأسواقنا مختنقة ببضعتها، والناس صاروا مكتنزين بالجمال والعافية، يسكننا البهاء كله، الورود الملونة، والعصافير الودودة، والفراشات الحالمة، وشذى العطر، خيولنااهلة، وأحلامنا ناضجة، وأصواتنا عالية، ودفئنا باذخ، والبرد لم يعد يخرج من بين الأصابع، نعدو بين الأيام، نجمع حبات التمني، ونهشم ألواح الماضي الكسيح، صرنا نتمدد في رحم الحياة كيفما نشاء، ولنا قراراتنا البارزة، ونعرف كيف نشم رائحة البنفسج، ورائحة الموجة، وعبق الندى، وكيف يرتفع نخيلنا باسقًا كأنه قصيدة، وردنا يكبر، وبارودنا يبتسم، وعينا الفكري غدا يسكب اللغة والمفردة، نضجنا كحقل ربيع، وأبوابنا صارت مشرعة، وعدنا نرسم البطولة بين كل ضلع وضلع، أسوارنا عالية، ومواسمنا سنابل، وصحراؤنا لم تعد حائرة، الحياة في أحداقنا، وأحداقنا كلها حياة، في أرواحنا نامت زنابق الماء، وكبر عندنا جدول الأمنيات، غيومنا مطر، ودوالينا عنب، والسنونوات توالدت عندنا بكثرة، ثمة نشوة عندها، لم يعد يفزعنا النعيق والعويل، والألسن البائسة صارت خاسرة، شمسنا بزغت، والغربان التي تجيد النعيق تهاوت في السحيق، عدنا لا نعرف سراديب المستحيل، ولا ترهقنا الأسماء المستعارة، خرجنا كالمارد؛ لنزرع الأشجار الوارفة، ونعلو كسحابة، ونرسم الضوء في حيز العتمة، ونصعد الجبال، ونرقى الوهاد، ونبحث عن ذاك الغراب الذي يشرئب بصوت دنيء، وينذرنا بالرزايا، ويحاول تغيير حلمنا؛ ليلعق فينا الدماء، ويزيد فينا الخراب، لنهشَّ عليه للأبد.. سنحرس حدنا بيدنا، ونلفظ كل غريب حقير، ونطهر أرضنا، ونزرعها بالنرجس والريحان والياسمين، ونفتح نوافذنا كل صباح كي نزدهي، وكلما كنف المخربون في الظلام الضباب لن يطحنوا أحلامنا؛ لأنهم شك، وعندنا يقين.