د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تعبر منطقتنا اليوم منعطفات تاريخية مصيرية في شكل حروب طائفية، وصراعات داخلية، وتحالفت وتجاذبات إقليمية ودولية. اختفت دول بأكملها. وأخرى قسمت. وظهرت كيانات جديدة، واختفت أخرى. وما زالت المنطقة تمور بأحداث ومخاضات لا يعرف مداها إلا الله. وبعض المحللين يرى النهايات في «يالطا» أو «سايكس بيكو» جديدين بين أمريكا وروسيا، والبوادر لا تسير في هذا الاتجاه لوصول تيار متشدد في أمريكا قد لا تعجبه لغة التنازلات في مناطق يعتبرها ضمن نفوذه التقليدي.
تاريخ المنطقة الحديث صاغته ثرواتها الطبيعية، وموقعها الإستراتيجي، والضعف النسبي لكياناتها السياسية، وفشل برامج التنمية في بعض دولها، ووجود كثير من الصراعات والخلافات التي رحل المستعمر ولم يحلها بشكل نهائي. ولذا فمنطقتنا منطقة هشة سريعة التأثر بالأحداث العالمية وسريعة الاشتعال. وكانت مرحلة الحرب الباردة أكثر سخونة في منطقتنا لاستقطاب بعض دولها كأدوات للصراعات الدولية من قبل القطبين الكبيرين في العالم. والنسبة وبالتناسب بين القوة والنفوذ، لم يكن لدول المنطقة خياراً إلا بالانضواء تحت لواء أحد القوتين.
تغيرت خارطة العالم السياسية فجأة نتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي بسبب الفساد، وانعدام الحريات، والمركزية المتجذرة في اتخاذ القرار، وانهارت معه بشكل مدويّ الأيديولوجية الاشتراكية في معظم الدول التي كانت تسير في فلكه التي تحولت إلى الاقتصاد الحر بشكل متسرع غير منظم خوفاً من عودة الحرس القديم. وأصبح الفكر الاشتراكي الذي تم بناؤه عبر قرون من الأدلجة محط تندر سياسي على أنه فكر طوباوي عقيم، وتنبأ بعض المفكرين السياسيين كفوكوياما بالانتصار الأبدي للفكر الرأسمالي الذي تمت عولمته بشكل سريع. وتحول الصراع الأيديولوجي لديني وأخذ شكلاً غامضاً فيما يسمى بحرب الإرهاب التي يفسرها كل نظام بالشكل الذي يراه.
تبع ذلك عقد من تصفية الحسابات الغربية مع دول العالم الثالث التي كانت تدور في فلك الاشتراكية، ومنها الدول العربية القومية العسكرية، التي تبنت النمط العسكري الاشتراكي الشمولي، التي لم تستوعب التغيرات من حولها. فقبيل انهيار الاتحاد السوفيتي كانت هناك محاولة لاستمالة للعراق بدعمه ضد إيران لتدمير القوة الإيرانية التي بناها الشاه قبل أن يسقطه الملالي بدعم غربي. وما أن ظهرت بوادر لسقوط الاتحاد السوفيتي انقضت أمريكا على العراق بسبب احتلال الكويت ودمرته بشكل شبه كامل ثم سلمته لعصابات ما يسمى بالمعارضة. واستمرت تصفية الحسابات مع الأنظمة الأخرى في سوريا، ولييبا بتشجيع الثورات على الأنظمة. عشر سنوات مزقت العالم العربي فيها بشكل شبه كامل، وأصبحت دول المنطقة إما مقسمة أو تخشى التقسيم. وساهمت الحركات الإسلامية: المختلفة المشارب، المجهولة الدعم، في تعزيز هذه الفوضى الخلاقة. أحست أمريكا بالتعب من التدخل العسكري في العالم، وتوجه الرأي العام الأمريكي إلى شعب مناهض للتضحية بأبنائه في حروب اعتقدوا أنها أضرت بالاقتصاد ولم تخدم أهدافاً ديمقراطية حقيقية. وتزامن ذلك مع مد قومي قوي روسي حرّكه ودعمه الإحساس بالمهانة في العجز عن الحسم في أوكرانيا وأماكن أخرى، مع رغبة للإدارة الروسية بصرف النظر عن المشاكل الاقتصادية الداخلية الحقيقية بمغامرات عسكرية خارجية، واتضح أثر هذا المد في احتلال القرم ثم التدخل العسكري بشكل سافر استعراضي بما يشبه الاحتلال لسوريا مع تراجع أمريكي غربي. هذا التاريخ معروف وواضح ولكن ما يبقى غير واضح هو المستقبل القريب لهذه المنطقة التي تموج بالحروب، ويبقى السؤال إلى أين تسير الأمور؟
ومن المستبعد أن يدخل الطرفان العالميان في مناوشات عسكرية قد تتطور لحرب متوسعة لا تعرف نهاية لها، ولذا فمن المرشح أن تتم العودة للصراع القديم عبر الأطراف المحلية في يشبه الحرب الدافئة. فروسيا لن تتخلى عن سوريا وستساوم أمريكا على العراق وإيران عبر الاتفاق النووي، وهي في حقيقتها لا تكترث للأسد بل تفضل معارضة تقبل بنفوذها كما يقبل به. والإدارة الأمريكية اليمنية الجدية لن تقبل بدور هامشي كما قبلت به الإدارة السابقة وقد تلجأ لحلفائها التقليدين، وربما تسعى لاستعادة نفوذها في تركيا عبر استرضاء تركيا بتسليمها المعارض فتح الله قولن. والاحتقان مرشح بالاستمرار بما يشبه الحرب الدافئة لعقود قادمة. ستفرض روسيا تسوية في سوريا، وسيتم احتواء إيران في العراق واليمن. وربما ينتقل خط التماس بين القوتين الذي كان في ألمانيا للشرق الأوسط.