د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يخفى على أحدٍ أنَّ مرحلة الطفولة من أهم المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان، إذ فيها تتشكَّل شخصيته جسدياً وفكرياً واجتماعياً وثقافياً، كما أنه يكتسب فيها المهارات الرئيسة والقيم الأساسية، ويمتلك الأفكار والقناعات التي ستظل معه طوال عمره.
وقد أدركتْ الأمم المتقدمة قيمة هذه المرحلة، فأولتْ عنايةً خاصةً بأطفالها، ومنحتهم كلَّ أنواع الرعاية والاهتمام، حتى أضحى هذا الينبوع الإنساني من أهم ثرواتها، بل صار يُنظر إلى مستوى تلك العناية والرعاية بوصفها دليلاً على تقدُّم الأمة وتطورها.
وقد زادتْ عناية الحضارات المتطوِّرة بالطفولة مع التقدُّم والتطور الذي يشهده العالم في جميع المجالات، حتى أمسى الاهتمام بالتربية الثقافية للطفل هدفاً من الأهداف الإستراتيجية والتنموية التي يُسعى إلى تحقيقها، ويُجتهد في الوصول إليها.
والتساؤلات الحاضرة هنا: كيف تنظر مؤسساتنا الثقافية والإعلامية إلى هذه القضية؟ وما حجم اهتمام هذه المؤسسات بثقافة الطفل السعودي؟ وهل يعي المسؤولون فيها الأهمية البالغة لتأسيس الطفل ثقافيا؟ ما هي الجهود المبذولة لدعم هذا التأسيس؟ وما الذي قدَّمتْه هذه المؤسسات لتنمية ثقافة الطفل وتقويتها وترسيخها؟ وهل نظرتْ إلى التربية الثقافية للطفل بوصفها هدفاً من الأهداف التي تضمَّنتها خططها الإستراتيجية؟
وتستمر التساؤلات: ما حجم الإصدارات التي تستهدف الطفل ثقافيا؟ وكم عدد البرامج الإعلامية التي تهدف إلى الارتقاء بثقافة هذه المرحلة العمرية؟ وماذا قدَّمتْ مؤسساتنا الحكومية في مجال التوعية بأهمية التربية الثقافية للأطفال؟ وما هي المؤتمرات والندوات والملتقيات التي أقامتها مؤسساتنا التعليمية والثقافية والإعلامية لتطوير هذه القضية المهمة والارتقاء بها؟ وأخيراً: هل تعي الأسرة في مجتمعنا المحلي أهمية التأسيس الثقافي لأطفالها وتنميتهم علميا وفكريا منذ وقتٍ مبكر؟ أم أنها تعتقد أنَّ ما تُقدِّمه المدارس من علوم أساسية كافٍ في منحه ما يحتاجه من ثقافةٍ في هذه المرحلة؟
أدرك تماماً مدى أهمية هذه الأسئلة، وصعوبة تحديد ما يختبئ وراءها من إجابات، وأعي أيضاً تعدُّد المسؤولين وتنوع الجهات التي يُفترض أن تهمها هذه القضية وتوليها عنايةً خاصة، مثلما أجزم أننا -أفراداً وأسراً ومجتمعاً ومؤسسات- مُقصِّرون جداً في العناية بثقافة الطفل، وتنمية الإنسان علمياً وفكرياً ومعرفياً في هذه المرحلة المبكرة من حياته، وأظن أننا لم نستوعب حتى الآن أنَّ أطفال اليوم هم الذين سيقودون مستقبل الوطن، وما لم نتنبَّه إلى تأسيسهم بثقافةٍ متينةٍ وعلميةٍ أصيلةٍ ومعرفيةٍ قويةٍ فإنَّ الحال لن يخلو من أمرين، إما أنَّ غيرنا سيفعل ذلك، وعندها سيحدث ما لا يُحمد عقباه، وإما أنهم سينشؤون نشأةً ضعيفةً، بأفقٍ ضيق وثقافةٍ متهافتةٍ لا يمكن معها أن يؤمن الواحد منهم على قطيع غنمٍ فكيف بمستقبل بلد!
إننا نعاني من ضعفٍ على مستوى نوعية الإنتاج الثقافي المقدَّم للطفل الذي أضحى جُلُّه -أي الإنتاج- مجرَّد تنظيرٍ وتأديبٍ للطفل، دون أن يُزوِّده بأدواتٍ معرفية وزادٍ ثقافي مناسب، والإشكالية الكبرى أنَّ هذا الإنتاج يُعزِّز في الأطفال ثقافة الذاكرة، والاعتماد على الحفظ والتلقين وترديد ما كان يقوله الآباء الأولون، دون أن يفسح لهم المجال والخيال للإبداع وتقديم الجديد المبتكر، إضافةً إلى انعدام الحثِّ والتحفيز على التفكير الإبداعي والتحليل والنقد والقدرة على مواجهة المشكلات والتعامل مع الأزمات وإيجاد الحلول، كما أنَّ مكتباتنا تعاني من فقرٍ مدقع في الإنتاج الفني والأدبي الذي يُزوِّد الطفل بالثقافة اللازمة، مثلما تعاني أيضاً من نقصٍ شديدٍ في مجال الترجمة، حيث لا نجد فيها ترجمةً لما يمكن أن يستفاد من الثقافات الأجنبية في هذا المجال المهم.
إنني أدعو من هذا المنبر إلى اعتماد تربية الطفل ثقافياً بوصفها مشروعاً حضارياً مستداماً وهدفاً إستراتيجيا لخطط الوطن التنموية، ولا يمكن أن يتم هذا الاعتماد إلا بتضافر جهود المؤسسات المعنية، ودعم الجهات المتخصصة بثقافة الأطفال بكل ما يمكن لتسهيل مهامها وتفعيل جهودها، إضافةً إلى الإفادة من التقنية في تعزيز هذا المجال، من خلال تصميم برامج ثقافية وتربوية وتعليمية تسهم في منح الطفل ثقافة ذات أسس متينة.
فضلاً عن توجيه عنايةٍ خاصةٍ بأدب الأطفال والتشجيع عليه، ودعم البحوث التي تتناول هذه القضية المهمة، وإقامة الملتقيات والمؤتمرات والندوات التي تعالج تربية الطفل ثقافيا، وتسعى إلى توعية الأسر بأهمية ثقافة فلذات أكبادهم، خاصَّةً في هذا العصر الذي تزاحمتْ فيه العلوم، وكثرتْ فيه المعارف، وسهل فيه التواصل الاجتماعي، ومن ثم زادتْ الأخطار وتضاعفتْ المشكلات التربوية والثقافية التي يمكن أن يقع الطفل فريسةً سهلة لها ما لم يكن معه زادٌ معرفيٌّ وثقافيٌّ يساعده على المواجهة ويُمكِّنه من الانتصار.