قاسم حول
أنتجت السينما الإيرانية مؤخراً فيلما يحمل عنوان «النبي محمد» للمخرج «مجيد مجيدي»، وتعاقدت وزارة الثقافة العراقية مع مؤسسة السينما الإيرانية لعرض الفيلم في العراق. ومعروف أن العراق في حقبته الحاضرة قد هدم كل صالات السينما العراقية وهدم أجهزة العرض، فتم شراء آلات عرض تسمى «الدي سي بي» المعمول بها حاليا في العروض السينمائية، وصاروا يعرضون الفيلم من خلالها في صالات المسرح أو قاعات المحافظات المخصصة للمحاضرات.
لم تمض سوى بضعة أسابيع على عرض الفيلم حتى كشفت قناة الحرة - عراق، الأمريكية حقيقة ما جرى وما يجري داخل هذه المؤسسة السينمائية التي من المفروض أن تكون ثقافية، وكشف ما جرى يتعلق بصفقة نهب سينمائية تتعلق بفيلم «النبي محمد». العقد الموقع بين الدولتين أحيل إلى شركة إنتاج سينمائية ثالثة متفق معها كي توقع هي العقد مع الشركة الإيرانية، وهي شركة «أقمار» كشركة وسيطة، لكي تذهب وارادت الفيلم إلى هذه الشركة ومن خلال أموالها يتسلم المديرون والوزراء والوكلاء حصتهم من الإيرادات، دون أن يدخل في صندوق الوزارة ومؤسسة السينما أي مبلغ منها، بل وكما ينص العقد بأن تقوم دائرة السينما والمسرح العراقية بتقديم صالة المسرح لعرض الفيلم مجانا للشركة الوسيطة وأن تقوم دائرة السينما والمسرح بطبع الإعلانات والملصقات السينمائية.
قانونيا لا يجوز أن تدخل شركة في عقد بين دولتين، وهو شأن مخالف للقانون حسب ما صرح به أحد رجال القانون لقناة الحرة عراق الأمريكية وهو القانوني «طارق حرب». كما لا يجوز أن يوقع وكيل وزير ومدير دائرة سينما أي عقد دون تخويل من وزير الثقافة المكلف بمهامه رسميا من قبل مجلس الوزراء.. وكل ما جرى هو مخالفات قانونية وأن العقد الموقع يندرج في مفهوم «البطلان» قانونيا.
إن الفساد المالي والإداري الذي بلغ حجم المسروق من خزائن المصرف المركزي وخزائن الوزارات قد جاوز حتى الآن وحسب واشنطن بوست التي نشرت تفاصيل الأموال المنهوبة هو «تسعمائة مليار دولار» خلال الفترة من 2003 وحتى العالم نهاية العام 2015 وهو رقم يكاد أن يكون خرافيا. ومن ضمن السرقات هي سرقة ميزانية بغداد عاصمة الثقافة عام 2013 من خلال إحالة عقود الأفلام لمخرجين كانت ميزانية أفلامهم منفوخة عشرات المرات كي يدفع المخرج حصة الوزراء والوكلاء والمديرين من الميزانية، ولا تزال الصحافة تكتب عن هذه السرقات ومن بينها عقد لبناء دار أوبرا بمبلغ ثمانية عشر مليون دولار، اتضح بأنه عقد وهمي لشركة لا وجود لها، ولا يزال ملف دار الأوبرا بحوزة ما يسمى «لجنة النزاهة» مع ملفات لا حصر لها من السرقات والفساد المستشري في العراق. وآخرها سرقة واردات فيلم «النبي محمد»
بعد أن ضجت الصحافة وانتشر نبأ سرقة أموال هذا الفيلم، سافر وزير الثقافة إلى باريس بادعاء التمتع بإجازته السنوية، وقدم ستة أعضاء من مجلس إدارة دائرة السينما والمسرح استقالتهم، وهم يطالبون بزيارة لجنة الثقافة في البرلمان العراقي كي يضعون الحقائق وملفات الفساد أمامها.
لا لجنة الثقافة في البرلمان سوف تتخذ أي إجراء، ولا وزارة الثقافة التي هرب وزيرها بدعوى الإجازة «الشتوية» قادر على اتخاذ اي إجراء ولا مجلس الوزراء قادر على اتخاذ أي إجراء ولا لجان النزاهة والرقابة يريدون اتخاذ أي إجراء بحق لصوص النهار ولصوص الثقافة العراقية والثقافة السينمائية.
السينما في العراق هي بالإساس مشروع تهديم وليس مشروع بناء. فالسينمائيون كثير منهم هاجر من وطنه منذ زمن ولا يزال بعضهم يحاول الوصول إلى بلدان اللجوء، فالنظام القائم في العراق الآن لا يريد ثقافة السينما، ويكتفي بالإعلام عبر القنوات الفضائية التي بلغ عددها أربعا وثلاثين فضائية تروج لأفكار أودت بالمجتمع العراقي نحو المجهول.
إذا كانت الدولة بتشكيلتها الغريبة لا تريد الثقافة ولا تنتمي إليها، فلماذا توجد وزارة ثقافة ينتسب إليها أربعة آلاف موظف؟! وإذا كانت وزارة الثقافة نفسها، لا تريد السينما، فلم تبقي على دائرة السينما بستمائة منتسب وهم لا شغل عندهم ولا عمل. وإذا كانت السينما العراقية محظورة، فلماذا يتم استيراد فيلم سينمائي من إيران، لعرضه في العراق، وكيف تدخل شركة صغيرة في عقد بين دولتين. دعونا نبحث عن السبب الوهمي في هذا الصفقة غير القانونية. عندما ظهر مدير دائرة السينما على شاشة قناة الحرة الأمريكية وسأله مقدم برنامج «الأيام السبعة» عن سر وجود هذا الشركة في عقد بين الدولتين، وأضاف مقدم البرنامج «لعقد صفقة مشبوهة عن فيلم يتناول شخصية مقدسة لدى المسلمين والعالم» أجابه مدير السينما: لقد طلب الطرف الإيراني تأمينات تودع في المصرف الإيراني قدرها أربعين ألف دولار، ولأن دائرة السينما ووزارة الثقافة ممثلة بوكيل الوزير لا يملكون مثل هذا المبلغ فإنهم استعانوا بطرف ثالث كي يدفع عنهم مبلغ التأمينات ويحال العقد إليه «هذا ما يندرج تحت مقولة العذر أقبح من الفعل»! واتضح لاحقا أن مبلغ التأمينات هو صك ضمانة مصرفية وليست سيولة نقدية، كان يمكن لوزير الثقافة استحصاله من مصرف الرافدين التابع للدولة، وهو ما كشف سر السرقة التي بلغت حتى الآن مئات الآلاف من الدولارات.
وحين انكشف السر بدأ التحقيق الآخر داخل إيران عن طبيعة الصفقة، وكيف تم توقيعها بين دولتين وتدخل على خط العقد شركة أهلية صغيرة تتسلم كل واردات الفيلم وتوزع الرشاوى والحصص على المسؤولين الحكوميين المؤتمنين على الثقافة، في أكثر العقود السينمائية مهزلة بل أنها توجت كل عقود بغداد عاصمة الثقافة بأكثر أشكال الفساد انحطاطا، سيما وأن شكل الفساد قد طال قيم التاريخ المتوارثة.
إن مهزلة سرقة أموال فيلم سينمائي قدسي النهج يستثمر لصالح ظاهرة الفساد هو آخر صيغة من صيغ الفساد والاستهتار بالقيم الإرثية والتاريخية، إذ لم يبق بعد هذه المهزلة من شيء يقال والوطن العراقي يخوض حرباً ضد الإرهاب والمفروض فيه أن ينتصر، فيما أصبح موضوع مهزلة هذا النهب موضوع حديث الشارع العراقي وبدأت اللافتات تعلق على جدران دائرة السينما والمسرح، وبدأ المتهمون يهربون ويتمتعون بإجازاتهم السنوية والدولة غير معنية بكل ما يجري ولكن الشارع يسوده الغضب مما يجري في الوطن.
ومع أن الطرف الإيراني قد اضطر لفسخ العقد إلا أن الفيلم مستمر في العروض في المدن العراقية والنهب لا يزال ساريا والتحقيق ليس جاريا!