فيصل أكرم
(جولة ثقافية تاريخية عبر شوارع القاهرة القديمة، فالشوارع ذاكرة تبنى في وجدان من يتجوّل في أروقة تاريخها ويتعرّف على أسرار تلك الشوارع وحكاياتها..)
بهذه الكلمات في مطلع نصّ الغلاف الخلفي لكتاب (القاهرة.. شوارع وحكايات) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، من تأليف حمدي أبو جُليّل، انجذبتُ إلى اقتناء هذا الكتاب ووجدتُ فيه من الاستحضار والمحاكاة لأزمنة بعيدة ما يلامس بعض الرواسخ في ذاكرتي التي هي من القرب بما لا يُذكر قياساً إلى حكايات الكتاب عن القاهرة وشوارعها.
حرص المؤلف على توثيق شوارع القاهرة القديمة كلها، من القاهرة الفاطمية وشوارعها العريقة الباقية حتى اللحظة (خان الخليلي، الأزهر، الدرب الأحمر، وغيرها..) إلى جزر وامتدادات القاهرة (المنيل، شبرا، الهرم، الزمالك، وحتى شارع جامعة الدول العربية في المهندسين) مروراً بشوارع القاهرة الإسماعيلية (رمسيس، التحرير، عماد الدين، قصر النيل..) وغيرها من الشوارع الكثيرة في منطقة قلب القاهرة، ومصر القديمة، بحكايات ليست خارجة على الهدف الأساس من تأليف الكتاب.. وهو توثيق تلك الشوارع وحكايات مسمياتها وأعمارها مذ كان معظمها بساتين وحتى صار بعضها الآن يسمّى بأسماء مستحدثة لمراكز تجارية وبعضها احتفظ باسمه غير أن كل ملامحه والأنشطة التي كانت تدور على امتداده قد أصبحت من الماضي غير الموجود إلا في ذاكرة ذوي الأعمار الممتدة. وقد جاء هذا الكتاب ليجمعها من مصادر كثيرة لتكون في إضمامة من 528 صفحة أعيدت طباعتها ثلاث مرات في ست سنوات؛ فهكذا هي الكتب القيّمة مهما تدنى مستوى المعروض في سوق الكتاب تظلّ محتفظة بأحقيتها في الاقتناء والقراءة والاحتفاء.
المساحة المخصصة لمقالتي هنا لا تكفي لاقتطاف فقرات استوقفتني جداً في هذا الكتاب، ولا تكفي حتى للاقتطاف من ذاكرتي المتخمة بمشاهد وأحداث وفعاليات ثقافية فنية وإنسانية وجودية عايشتها في حضوري الأول إلى القاهرة مطلع الثمانينيات الميلادية صبياً وحيداً قادماً من مكة المكرمة ليكتشف ما حوله من العالم.. وأظنني اكتشفته فعلاً في تلك المرحلة!
في (مدخل) الكتاب، يقول المؤلف حمدي أبو جُليّل، وهو روائي مصري من جيلي (مواليد 1967) وإن كنتُ لا أعرفه شخصياً إلا أنني أحسستُ بصدق بوحه: (ما أصعب أن تقدم كتاباً صنعته الصدفة.. كنت كأي صحراوي خائفاً ومكروباً لا يشغلني في القاهرة سوى مكانين: المكان الذي أقيم فيه والمكان الذي أضطر للرحيل إليه؛ والشوارع أو المسافات الفاصلة بينهما كانت كما السفر قطعة من جهنم.. معطل أو مؤجل ممل لمتعة الاسترخاء في المكان المنشود.. كيف تستريح لدروب لا تختلف كثيراً عن دروب الصحارى، نفس الجهامة والقسوة والترقب، ونفس التهديد بشراك الطبيعة والبشر المختبئة في كل جانب. وطالما فكرتُ في طريقة جهنمية تسمح للواحد بالقفز مرة واحدة من مكان إلى آخر، طائرة فردية أو بساط ريح أو حتى مخدر يسمح للواحد بالوصول إلى الأماكن دون مرمطة الشوارع)
إلى أن يصل إلى اللحظة التي حزم فيها أمره بعدما وجد نفسه يضطر إلى خوض الرحلة كل يوم حتى اعتياد المشي في هذه الشوارع: (ومن هنا جاءت فكرة هذا الكتاب).
أقول: هو كتابٌ موسوعيٌّ عن شوارع القاهرة وحكايات شوارعها مكتوبٌ بلغة أدبية ورصد علميّ، وقد تحقق لي بقراءته كثيرٌ من المتعة والفائدة معاً. فليس أقلّ من التحية مع الشكر أقدمهما لمؤلف الكتاب والقائمين على نشر كتب بهذا المستوى من القيمة المعرفية الثقافية التي لا تخلو من الفن والإبداع؛ وهذا نادرٌ بين ما يطرح الآن. وقد أعود في مقالة لاحقة إلى مزيد من الحديث حول هذا الكتاب لأنه يستحق، ولأن (القاهرة القديمة) وشوارعها لا تستحقّ التذكير بها وحسب بقدر ما تستحق أن ينتظر محبوها عودة ولو بعض جمالياتها المتميزة.