- يتسع مفهوم الجمهور والجماهير باتساع سياقات استعماله، فلكل ميدان جمهور ولكل جمهور ميدان، ولكل واحد من تلك الميادين وجماهيرها صورته الخاصة به المتشكّلة في الذهن عنه، يضاف إلى ذلك كله اختلاف مفهوم المصطلح المعاصر عن سابقه من العصور، فمفهوم جمهور الفقهاء - مثلاً - مختلفٌ كلياً عن مفهوم الجمهور المعبَّر به عن «الحشد المستهدَف»: أيًا كان شكل هذا الحشد، وتصوره ومفهومه، وأيًا كان نوع استهدافه، بخطابٍ أم صورةٍ أم أداء أم بغيرها أم بها مجتمعة، وهكذا.
- ويستدعي مصطلح الجمهور المعاصر مصطلحًا مرافقًا له على الدوام، هو النخبة، وهو لا يقل إشكالًا عن صاحبه عند التحقيق والتحرير والتدقيق، من حيث هو تصور مطاطٌ فضفاضٌ بدلالات واسعة وأغراض تعبير وأداء متعددة. فأي ضابط يمكنه تحديد مفهوم النخبة بله تحديد صور خطابها ومضامينه؟ أهي القوة المعرفية البحتة أم المادية البحتة أم الأخلاقية البحتة أم غير ذلك؟ وهل النخبة شريحة بعينها أم شريحة داخل كل شريحة؟! فإن صح ذلك، فهل تُضَمَّن شريحة الجمهور نفسها نخبة داخلها، والعكس صحيح؟ هل يمكن أن يلتقي المفهومان ويتحد التصوران في ذات كينونةٍ واحدة؟
- الواضح أن الآراء تتقاطع والأفكار تمتد في تصور المفهومين، وبعيدًا عن هذه محاولة الخوض في عموم هذه الإشكالات، سيكون التركيز على معالجة جوانب من ثقافة الجماهير لدى جماهير الثقافة.
- أغالب نفسي مغالبةً لئلا أوافق مقولة: «إن من يكتب للسذج لضامنٌ جمهورًا عريضاً!!، لكن الواضح في كثير يستعصي على الحصر من المناسبات أن الإبداع والجدة والإدهاش ليست دائمًا المحك في انتشار الخطاب الثقافي والإقبال عليه، بل ليس حتى القبول دومًا داعي الإقبال، فلربما كان الرفض أدعى. ولكن، في زعم محاولة تأمل أكثر حيادية، يبزغ سؤال: هل يُساءل الوعي الجماعي عن هذا الانتشار للخطاب الضعيف الذي لا يدهش في أي شيء سوى ممارسته التأثير والقدرة عليها؟ ويستدعي هذا تساؤلًا آخر: بافتراض التسليم بصحة فكرة الانتشار لخطاب غير مدهش وهش، كيف صح أن ينسب صاحب هذا الخطاب وأمثاله إلى النخبة مع موافقته سمات المرتبة الجمعية وانطباق صفاتها عليه؟ إذ إن منجِز غير الجيد الداعي إليه قابلٌ له مؤمنٌ به بطبيعة الحال، ويبعد تصور منتِج يقبل بنتاجه وهو في الوقت ذاته يؤمن بضعفه وعدم جودته وجدواه.. اللهم إلا إن كان وراء الأكمة ما وراءها في سعيه لتسويق ذاته أو منجزاته!
- إذن: حين لا يكون نتاج النخبة - المسماة افتراضًا كذلك - غير مشروط بالضرورة بالجودة والجدة، فما الحدود الفاصلة لتمييز نتاج الجمهور عن نتاج النخبة؟ وما الداعي أصلًا لهذه النظرة الازدرائية الدونية لفكر الحشد وثقافته خاصةً ممن يمثلها بهذا التصور مضمونًا وإن لم ينتسب إليها شكلاً؟ وفي المقابل: هل النتاج الشعبي منسوبٌ بالضرورة إلى الضعف والضعة؟ وإن يكن الأمر كذلك: فعلام اشتغال كثير من المنسوبين إلى الثقافة العليا - كما تُسمى وحسب - بآثار كثير من المنسوبين لثقافة المألوف والسائد؟ تساؤلٌ آخر لا يخلو من المفارقة: فيم فشل بعض نتاج النخبة حتى في استثارة النخبة وبقاؤه حبيس التلاشي والاندثار؟! هل تصح فكرة تدني مرتبة الجمهور عن الفرد على إطلاقها؟ فلو كان الأمر كذلك: فما سر الانتشار والشعبية الجارفة لبعض الخطاب النخبوي الحقيقي - بالصفات المقررة أو المتصوَّرة للخطاب العالي - وممثليه لدى الجمهور؟! بل ما سر إنتاج الجمهور مثل ذلك الخطاب وتسابق النخب في الاشتغال عليه؟ كل هذا يعود بنا عودًا إلى التساؤل الأول: من يمثل من؟ ومن يحدد هذا التمثيل ويؤثر فيه ويلهمه ويرشده؟ من يحمل الآخر على مقاصده: ذات الفرد أم المجموع؟
- الفردانية أو الانغماس في الذات الجمعية كلاهما ابتداءً فكرة غير واضحة المعالم تمامًا في نظري، متداخلة كثيرًا في «عصر الجماهير» الذي تمر به ثقافتنا على وجه الخصوص.. مفهوم المؤثر والمتأثر والقدرة على تصور «من يقود من»، ومن يذوب في كينونة الآخر ومن يوجه بانفعاله الآخر، أو باختصار: «من يخلق شروط الوجود؟» ملبسٌ عند التحقق والتحقيق. ولربما لحظ المتأمل في واقع ما يجري تمازج السمات وتخالط الصفات بين القائد والمنقاد فأدرك أن تمييز أحدهما من الآخر ليس من السهولة كما يبدو ظاهريًا. فالجمهور أهم عناصر نجاح حدث الاتصال بالخطاب الحدث وصُنَّاعه، مع أنه لا يشارك في صنع ذلك الخطاب، لكنه قد يشارك مشاركةً مباشرةً أو غير مباشرة في اصطناع ذلك الخطاب. فهو بهذا قوةٌ مؤثرةٌ تُخضِع كثيرًا من صنّاع الخطاب المسمين نخبًا، مع عدم إيماني بوجود شريحة بعينها تختص بجوهر المصطلح وتنعم بها مضمونًا. المثقف أحيانًا جمهورٌ من حيث لا يشعر لجمهوره أكثر مما هو جمهوره له!
- الحكاية في ظني يمكن اختزالها في من «يصنع الوعي ومن يصرع الوعي»: من يُزَّينه ومن يزيفه، من يقدمه ومن يُقزِِّمه.. من يعمل وفق أوهام السوق والمسرح أم عكس اتجاهها. ليس القبول مشروطًا بمدى علو الخطاب أو أمانته ونبل مقاصده، ولا الرفض كذلك. ووفق قانون: «المسرح يصيب الجمهور بالنشوة النبيلة!!، بين من يتغيى الجمهور بالارتقاء ومن يستغوي الجمهور أو يستغويه الجمهور بالارتماء، ربما شكَّل السكون ثباتًا على مبادئ الخطاب وغاياته، أيًّا كانت، ولربما كان الحراك تحولًا عنها يتسارع في كل مرة. لا شيء يبدو على إطلاقه، ولعل من الممكن جدًا القول إن كلًا من الطرفين: الجمهور والفرد، ينال الآخر الذي يستحقه ويبحث عنه ويسعى إليه ويفضله!
- الحقيقة ليست مجردة، الحقيقة تفكيكٌ وتفكيرٌ وتفسير.. والثقافة سؤال، مهمته البحث عن تصور للإجابة لا الحصول على الإجابة. زعم الإحاطة بالجواب دعوةٌ إلى السكون والركون والركود، وأما الجواب المنمط الجاهز فشَلٌّ لأطراف الفكر وأطيافه.
- المثقف الحق باحثٌ وباعث، متحفزٌ لا متحيز.
علي الجبيلان - الولايات المتحدة - إنديانا 25-2-2017