د. عبدالحق عزوزي
السؤال الكبير الذي يطرحه العديد من الخبراء العالميين اليوم: هل الرئيس الأمريكي الحالي ترامب رجل إستراتيجي؟ وهل إدارته لها من المقومات ما يسمح لها بقراءة البيئة الدولية المعاصرة التي أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى؟ أظن أن الجواب صعب ولكن مجريات الأحداث توحي بأنهم يسيرون في اتجاه التيار العاتي، ووحدها الأيام ستجيب على هاته الأسئلة، ولكن دعونا نفهم جليا هاته البيئة الدولية المعقدة. إن «وهن القوة» كما كتبت في العديد من المناسبات على صفحات هاته الجريدة الغراء، هو الطابع الذي يمكن أن نصف به هاته المرحلة الحاسمة من تاريخ البشرية، فالقوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة... فلم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق، ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية.
إن الذي أراه بعد مرور عدة أسابيع على إدارة الرئيس ترامب هو عدم الاكتراث بالأبعاد الاستراتيجية في إدارتها الداخلية والخارجية؛ فهناك تقريباً سبعة عشر بُعداً للاستراتيجية -كما يقول كولن إس. جراي- هي: الأشخاص، والمجتمع، والثقافة، والسياسة، والأخلاق، والاقتصاد والإمدادات اللوجستية، والمؤسسة، والإدارة، والمعلومات والاستخبارات، والنظرية الاستراتيجية والعقيدة، والتقانة، والعمليات، والقيادة، والجغرافيا، والاحتكاك/ المصادفة/ التوجس، والخصوم، والزمن. وهذه الأبعاد يجب أن تؤخذ بالحسبان بكليتها، أي باحتساب كل بعد منها فردياً، دون إغفال أي منها، مع احتساب تأثير البعد الواحد في سياق علاقته بالأبعاد الأخرى.
ثم إن غرض الاستراتيجية هو ترجمة الغرض السياسي (الهدف الوطني، والمصالح القومية، ودليل السياسة) إلى تأثيرات تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو المفضل. وهي شاملة في نطاق رؤيتها ومحدَّدة في حقل تنفيذها. فالاستراتيجية تُعنى بالمستقبل، وتحليل المشكلات وتجنبها، وتؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الاستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الاستراتيجية الأساسية التي يجب أن تعالَج لخدمة مصالح الدولة بنجاح. ومن خلال تحليل هذه العوامل وتقويمها، فإن الاستراتيجية تُنتج بياناً معقولاً يتضمن الغايات والطرائق والوسائل التي تخلق تأثيرات تؤدي إلى المستقبل المنشود. وبذلك، فإن الاستراتيجية تخدم هدف السياسة، وتضمن المرونة والقدرة على التكيف، وتضع الحدود من أجل التخطيط السليم.
فعندما نرى السياسة الحمائية الحالية لترامب، ونظرته عن الهجرة والمهاجرين، وصراعه الداخلي مع سلك القضاء ومع بعض المؤسسات الأخرى، والهييج الذي يحدثه في النظام الدولي، نخرج بقناعة أن رؤيته ليست بنظرة موضوعية للبيئة الحالية، و ليس له أي تقويم مسبق لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل. ومع أن الخبير الاستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد بأنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل. وإذا قلنا إن الاستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الاستراتيجي وشغله الشاغل.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فهناك مشكل تأثير ترامب على العديد من الأطياف السياسية في الدول الغربية، بمعنى أن الرقعة الجغرافية لسياسة ترامب قد تتسع، فالتيارات اليمينية المتطرفة في هولندا وفرنسا وألمانيا مثلا تجد في الرئيس الأمريكي ترامب مثالا ومرجعا للاستحواذ على المجال السياسي العام، كما نجدهم يتبنون خطاباته التي أوصلته إلى البيت الأبيض، كما نجده هو بنفسه دافع عمن يجد فيهم رائحة الموالاة والتبعية الفكرية والروحية ليوقع معهم اتفاقا غير معلن لكي يصلوا إلى سدة الحكم. ولعل أكبر مثال على ذلك التصريح الذي أدلى به مؤخرا الرئيس الأميركي نقلا عن صديق له من عشاق العاصمة الفرنسية، بقوله إن «باريس لم تعد باريس» أي لا أصحاب القرار هم في المستوى المطلوب للدفاع عن بلدهم ولا سياستهم في مجال الهجرة تؤتي أكلها؛ وهنا نتفهم ردة فعل الرئيس الفرنسي هولاند خلال زيارته السبت لصالون الفلاحة الذي تحتضنه سنويا باريس: «هنا لا يمكنك تداول الحصول على أسلحة، هنا ليس لديك ناس يحملون الأسلحة ويطلقون النار على آخرين من أجل مجرد الارتياح للتسبب في الدارما والمأساة، للأسف هناك الإرهاب وعلينا أن نحاربه معاً، أعتقد أنّه ليس امرا جيدا على الإطلاق إبداء أدنى انعدام ثقة في دولة صديقة».