أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الأفكارُ مُنبثقةٌ من خِبْرَةِ الحسِّ.. إلاَّ أن هذه الخبرة الحسية تولَّدَ منها ضروراتٌ عقليةٌ لا ريب فيها؛ فإيمانُ عقلي بأنَّ الضِّدين لا يجتمعان: هدتني إلى أنَّ قانونَ الوسطِ الْمَرفوعِ ضرورةٌ عقليةٌ لا ينقضها إلاَّ خِبْرةٌ حسيةٌ أخرى من حيثُ أرى ضِدَّين اجتمعا؛ إذن عندنا بَدَائِهُ عقليةٌ ضرورية هي أمُّ البراهين سواءٌ أكانت مكتسبةً من الحس، أم من الفطرة؛ وإذن فَلْنسمِّها (بدائهُ العقل الضرويةُ)؛ والبرهان على هذه البدهيات ضروريةٌ فطرية.. قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: (هذه البدهيات لا يَطْلُبُ عليها دليلاً إلا مجنونٌ أو جاهلٌ؛ لأن الاستدلالَ على الشيءِ لا يكون إلا في زمان؛ لأنه عُلم بضرورةِ العقل أنه لا يكون شيءٌ مِمَّا في العالم إلا في وقت؛ وليس بين أول أوقات تمْييز النفس الحسي وبين إدراكها العقلي مهلة ألبتة).
قال أبوعبدالرحمن: نفيُ هذه البديهياتِ يحتاج إلى خِبرة عُلماءَ يرصدون الإدراكَ العقليَّ عند الطفل؛ وأبومحمد -رحمه الله تعالى- يخلط بين الغريزة والإدراك عندما ذكر تناول الطفل الثدي لا غيره بفمه لا بأصبعه؛ فصح أنها ضرورة؛ وهذا النص من كتابه الْفِصَلُ 6-1؛ وهذا هو حُجيةِ الضرورةِ العقلية؛ إذْ يَقِفُ العقلُ عندها بانتهاءِ تأمُّله، وإذعانه لها؛ فهذا معنى انقطاعِ الحجة؛ وإنما استدل أبو محمد بضرورتها على قَبْلِيَّتِها، ولم يستدل بضرورتها على ضرورتها؛ فذلك فضول؛ وأمَّا مسأَلَةُ الزمان فلها بحث خاصٌّ يأتي إنْ شاء الله تعالى في إحدى المناسبات القادمةِ.
قال أبو عبدالرحمن: وبناءُ العقلِ معارِفَه على بدائهه الْمَذخورة في تصوره: هو نفسه العملياتُ الرياضية الْمُنتجةُ يقيناً حسابياً.. مثال ذلك استدلالي العقلي العلمي على أنَّ الصلاةَ واجبةٌ؛ فقد ظهر يقينُ هذا الحكمِ من البناء على يقينات أُخرى.. قال الله سبحانه تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}[سورة البقرة -83]؛ فهذه الآية برهان؛ لأنَّها مربوطةٌ ببراهينِ صدقِها ومدلولها؛ لأنني عرفت بعقلي: أن الله واجبُ الوجود على الكمالِ الْمُطْلَقِ والتَّنَزُّهِ الْمُطلَق؛ فَنَفْيُ ذلك محالٌ عقلي؛ فيستحيل أنْ يكونَ هذا الخلْقُ بدون خالقٍ، أو أنْ يخلقَ نفسَه، أو أن تَخْلُقه المصادفةُ.. وعرفت بعقلي أنَّ عبدَ اللَّهِ ورسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم مرسلٌ لنا من ربه؛ لأن آياتِه الحسيةَ والْمَعنويةَ دلَّت على صدقه، وأنَّه رسول الله؛ إذ يحيل عقلي وحِسِّي التكذيبُ بدلالة هذه الآيات.. وعرفت بعقلي أنَّ هذه الآيةَ الآمرةَ بالصلاة من عند الله؛ لأنَّ الكافةَ نَقلتْها اتفاقاً؛ فلو غيَّر متلاعبٌ في الغربِ حرفاً منها لأدرك ذلك عاميٌّ مسلم في الشرق.. وعقلي يُحِيل التكذيبَ بالتواترِ ونَقْلَ الكافةِ، وقد نقلوها عن عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي آمن عقلي بأنه رسول الله؛ وهذا الأمر بالصلاة يقتضي الوجوبَ؛ لأنَّه بصيغةٍ دالة عليه في لغة العرب التي علمتُ أنَّ الأصْلَ فيها في الوجوب حتى يُوْجَدَ صارف عن ذلك يقينيٌّ، أو ضرورةُ عقلٍ تمنعُ مِن إرادةِ الوجوب؛ فلو صرفته عن مضمون لغة العرب لكنت متعدياً.. وعقلي يحكم ببطلان التعدِّي ؛ إذن الصلاة واجبة عقلاً بموجب هذه الوسائط الْمُتسلسلة؛ ولهذا فإنَّ عائبي (الديغمائية) بإطلاق: قد فاتَهم أنَّ دِيغمائِيَّتهَم لا تختلف في أنَّ النتيجة الْمُحقَّقَةَ من التجرِبة التي هي أصدق برهان؛ فما قيمة هذا البرهان إذنْ إنْ لَمْ يكن ركيزةَ الانطلاقِ إلى معرفةٍ أخرى كانت مجهولة؟.. ثم إن التجربة الراهنة مشروطة بالأفكار الفطرية التي هي مستند الديغمائية العقليةِ؛ والبرهانُ على هذا الاشتراط موجودٌ في كلِّ تجرِبة علميَّةٍ؛ فلنأخذ حكماً تجريبياً منذ الملاحظة حتى نهاية البرهنة، ونُشخِّص عناصر الثقة أو اليقين بالتجرِبة؛ لنعرف إلى أين تنتسب التجربة، ومن ثم عمومُ المعرفة؛ ولذلك حديث يأتي إنْ شاء الله تعالى في السبتِ القادِم, والله المُستعانُ.