د. حمزة السالم
من قبل ومن بعد توصية قرينسبان بتعويم الريال عام 2008، كثرت وتكثر تصريحات الاقتصاديين الأجانب وتحليلات كبار الصحف الأجنبية، حتى صحيفة ول ستريت، عن احتماليات تعويم الريال وفك الارتباط. وهذا قول ساقط، لا يرقى إلى أن يُذكر كاحتمالية ممكنة، فضلاً عن التوصية به. ولا يستفاد منه إلا تقديم العبرة لنا بأن الأجنبي الخبير لا يبذل الجهد ليتصور وضعنا؛ فمن باب أولى لن يأتي لنا بجديد يناسب اقتصادنا.
والتصوُّر السطحي لا يؤثر في القناعات. فلن تحدث القناعة المخالفة عند الأجنبي حتى يقوم بتحدي قناعاته؛ ليكتشف ضعفها في حال اقتصادنا؛ فيفهم حينها اقتصادنا. وهذا عمل شاق ومستهلك للوقت والعقل، ثم قد لا يتأتى للشخص ولو بذل الجهد. فلن يبذل جهدًا كهذا مع خلو من قناعات سابقة إلا ابن غيور من أبناء هذه البلاد.
وأضف إلى ذلك حالة اقتصاد بلادنا؛ فهي حالة نادرة؛ لأنها حالة (ثروة تُستهلك)؛ فهي حالة غير مُستدامة؛ فلا تُحفز الغريب لدراستها؛ فلن يبذل الجهد في تصورها فيفهمها إلا من يهتم بها ويغار عليها، ولا يكون هذا إلا من أبنائها.
فعندما كرر قرينسبان توصية تعويم العملة في مناسبات عدة في دول الخليج جاءت إجابات مسؤولي البنوك المركزية في دول الخليج كتصريحات ضبابية واسعة، تحمل جميع الاحتماليات.
وسبب استحالة تعويم الريال هو أن التعويم يعني عرض الريال السعودي للبيع في سوق العملات. فمَنْ سيشتري الريال إن كان الريال لا يُقدم لمشتريه الدولي أي سلعة يمكن مقايضتها بالريال؟ وكون النفط سلعة دولية متجانسة تجعل الدولار محتكرًا طبيعيًّا لها. وبيع النفط بالريال - لو افترضنا إمكانيته سوقيًّا - هو مجرد إضافة كلفة لا طائل منها.
وحديث قرينسبان كان عن التضخم الذي أدرك اقتصاديات دول الخليج عام 2008؛ فأوصى بتعويم الريال للقضاء على التضخم. فالتصور الذي انطلق منه هو اقتصاديات الدول المنتجة. فالاقتصاد الذي يشهد نموًّا إنتاجيًّا قويًّا لا بد أن يدركه تضخم حتمي؛ لارتفاع الطلب المحلي على موارد البلاد المحدودة مما سيؤدي إلى ارتفاع كلفة السلع التي يصدرها هذا المجتمع؛ فيقل الطلب العالمي عليها؛ وبالتالي يتباطأ النمو الإنتاجي فيه؛ فيبدأ التضخم بالانخفاض. لكن من الآثار الجانبية المصاحبة هو: انخفاض الطلب العالمي على عملته مما سيخفض قيمتها أمام العملات الأخرى. وهكذا، في حركة ديناميكية حتى يعود التوازن العالمي الإنتاجي بين الدول.
هذا هو التصور الذي انطلق منه قرينسبان في توصيته لنا بتعويم الريال. فلو حاولنا تخيل تطبيقه على بيع النفط بالريال فسنجد أن حقيقة بيع النفط بالريال هو مجرد ربط الريال بالنفط. فسوف تزداد قيمة الريال بارتفاع أسعار النفط لارتفاع الطلب على الريال عالميًّا، وستنقص قيمة الريال بانخفاض أسعار النفط لانخفاض الطلب على الريال عالميًّا.
فما غاب عن قرينسبان، وهو من هو كأسطورة اقتصادية، وسيغيب عن أي اقتصادي نقدي عالمي، هو تصور اقتصادنا تصورًا عميقًا، لدرجة تصل به إلى تغيير قناعاته.
فنظرة الأجنبي الخبير العالم في تعويم الريال ما هي إلا شاهد قوي لنا، ينبئنا عن نوعية توصية المستشار الأجنبي عندنا. فإن كان خبير كقرينسبان يأتي بتوصية كهذه فكيف تكون توصيات النوعيات التي تأتينا من الخبراء الأجانب؟ ولا يأتينا إلا من عجز عن المنافسة في سوق العمل الأمريكية.
توصية قرينسبان شاهد جلي، فإن عجزنا عن رؤية أسطع الشواهد وأوضحها كهذا الشاهد فكيف سنستطيع رؤية المستقبل؟