د. خيرية السقاف
في زاوية من الدفتر المربع, ذي الغلاف الحالم بأسيجة السرو في ممر طويل تحتويه ظلالها,
ذي القفل المذهب الصغير بحجم سبابة أصبعها, وإبهامها عندما تديره لتشرع إلى عالمها الطفولي صفحاته, دفترها الذي اقتنته في روحة مبهجة مع أبيها, وهي تمسك بكفه وتدلف إلى المكتبة الورقية لتعود تتقافز فرحة به, تدير في ثقبه المفتاح المنمنم, تطل في صفحاته ذات السطور الملونة بنبض قلبها الفارط في خفقه, على كل اللحظات في سنيها التي توارت داخله, يأخذها كل حرف فيه على الطريق الذي مضى, في هذا المكتنز بأيام طفولتها, ما أفضت به معلمتها حين شغفت بها, وهي تدرب مخارج الحروف في شفتيها, زميلاتها في الصف, وكل شيء يتفاوت بينهن, أمها وهي تبصم فيه عبارتها الخاصة بها, ومن ثم عمها, وأخوها,
أصغت لأصوات أتتها اللحظة من بعيد من داخل صفحاته, من ردهات مدرستها في "المربع" ولم يبق من أثرها إلا الذكرى, حضر بين عينيها "كشك" المرطبات فيها, وأرغفة محشوة بالحلوى الطحينية, وحبات الفلافل الشهية, وأكواز الآيسكريم البرتقالية, وقوالب الشوكولاتة ذات المذاق الزكي حين كانت تتركها في الشمس بعد أن تبتاعه منه لتذوب عند زاوية نافذة الفصل, فإذا ما انتهت الحصة, ركضت مع "زهور" صديقتها التوأم لتلتهماها معا, حتى لكأن الحروف تتحرك كالبشر, تتكلم بأصواتهن, تمشي بها معهن, تقف بجوارهن, تتكلم إليهن, تقودها من يدي مخيلتها نحوا بعيدا في الذي مضى, معلمتها التي كانت في عينيها بسعة المدينة كل الأفكار, والمعارف, بالذي كانت تفضي به في كل حصة دراسية, أو ترميه في الأذن في الوقفات التي تعترضها, سلم الدرج الذي كان يفضي إلى حجرة "المديرة" تلك التي يوما وآخر كانت تستدعيها لتزرع في قلبها الثقة, والفرح, فصحيفة الحائط التي كانت تعدها مع زميلاها تميزت بجائزة, ودرجاتها المتقدمة حصدت بها جائزة,...
يأخذها دفترها الصغير لركن آخر, تلك الصور التي تجمعها برفيقاتها على مسرح المدرسة, أبوها بجوارها يتسلم معها شهادة التفوق, أمها تحتويها بقبل النجاح..
يطرق الباب, ثمة من يلقي عليها تحية الصباح هذا, تنفصل فجأة الطريق بها, تخرج عن سياجات دفترها, تغلقه............
تعود, الجو بارد, الرياض اليوم لم يبق فيها من ملامح الدفتر شيء, وقلة من الطيوف, ولا أحد من الأهل, تفرقت بهم الطرق, أصبح كل في مكان قصي..
الهاتف وحده بلسم المسافات, والطائرة..!!