د. فوزية البكر
تعرف الدبلوماسية العامة في أبسط معانيها وكما أشار لها جان ميلسن وآخرون في كتابهم (الدبلوماسية العامة: القوة الناعمة في العلاقات الدولية) إلى أنها (فن إدارة السمعة وإعادة تشكيل الصورة الذاتية للدولة وقولبة هويتها بطريقة تميزها عن غيرها)، لذا فالدبلوماسية العامة هي الصوت غير الحكومي في العلاقات الدولية الذي يساهم في تشكيل الصورة الذهنية عن البلد من خلال التعريف بتراثه وفنونه وهوياته المتعددة التي تظهر في مأكله ومشربه وملبسه ونشاطاته اليومية أي هي المشترك بين الثقافات لكنها أيضاً المختلف حسب المناطق والتنوعات المناخية والجغرافية والتاريخية الذي يستهوي الآخر الذي يريد أن يرى ويأكل ويسمع شيئاً مختلفاً ولكنه جميل مشترك لا يهدد وجوده أو ثقافته.
هذا يعني أن شعوب الأرض كلها مهووسة بتقديم تنوعاتها فهذا البلد الأكثر نشاطاً وهذا البلد الأكثر اخضراراً وهذا البلد الذي تعيش نساؤه حتى سن التسعين.. وهكذا حتى نصل إلى الصورة السعودية لنسأل السؤال التاريخي الأكثر حرجاً في وقتنا الحاضر (بالنظر إلى الظروف التاريخية التي يمر بها المسلمون) وهي: ما الصورة الذهنية لدى الآخرين عنا كشعب وما هي الصورة الذهنية التي نرغب فعلاً أن يعرفها الآخرون عنا؟
لا أستطيع أن أحدد ملمحاً مشتركاً نكاد نتفق عليه في صورتنا التي نرغب أن يطلع عليها الآخر، حيث يختلط في عجن هذه الصورة السياسي بالديني بالمناطقي بالتقليدي وكله مغموس بخبز الدبلوماسية المتحفظة البيروقراطية التقليدية التي اعتدنا على (وزنيتها) لعقود (عبر سياسات متحفظة من وزارتي الداخلية والخارجية) التي وضعت الأطر العامة لما (نرغب أن نظهره للآخر). (لاحظ نحن الناس لم نشارك في رسم هذه الصورة، إنها الأجهزة الحكومية التي تحدد ما (يريد) السياسي أن يصل للآخر في لحظة تاريخية معينة).
لاحظ أن الآخر (الذي نتمنى أن يعرفنا ويكتب عنا بطريقة إيجابية ونطير فرحاً بأية إشارة أو مقالة صغيرة منشورة في جريدة مسائية منسية تمدحنا) هذا الآخر لا يجد أي متعة في أية أنشطة تحمل شبهة (الترويج الإعلامي السطحي) الذي أنفقت عليها المؤسسات الرسمية المليارات خلال السنوات الماضية عبر مناسبات عابرة أو أيام ثقافية تم تنظيمها على عجل لتوافق أمر السياسي في لحظة ما أو لمواجهة (أزمة) ما: أي قانون إدارة العلاقات الخارجية عبر نظام الأزمات مع استمرار البيات الشتوي والتحفظ الحكومي التاريخي التقليدي طالما الأمور (ماشية)!
اليوم نسأل سؤال المليون دولار: هل نستطيع تحمل التكلفة العالية لهذا النمط الدبلوماسي التقليدي الذي لم يؤتِ أكلاً خاصة في عصر القوى العامة غير الحكومية وعصر سيطرة المعلومة ودخول القوى الشعبية (وربما حتى الفردية) عبر منصاتهم الإلكترونية بحيث فقدت القوى التقليدية الكثير من نفوذها هذا عدا عن أن جهودها لعقود تميزت بالتخبط وعدم التنسيق وعدم الفهم لطبيعة تلقي الآخر وثقافته، إضافة إلى شبهة الفساد الذي كان يتحكم إلى حد (غير معلوم بدقة) في مسار الكثير من الأنشطة.
لنتذكر أمراً بالغ الأهمية وهو أن الصورة الذهنية لشعب ما لا ترسمها حكومته بل يرسمها فيلم جميل محترف يقدمه أحد فنانيها أو كتاب متميز يفوز بجائزة أو كشف علمي يسهم في معالجة معضلة صحية وهكذا؛ أي أن أنشطة الصورة الذهنية الحقيقية هي غير مزيفة وهي تأتي من الناس مباشرة ولا تديرها الآلة الرسمية لكنها تنسق لها وتدفعها وتدربها عبر إتاحة الفرصة لمؤسسات المجتمع المدني وللباحثين والفنانين والطباخين والهواة إلخ، مما يمثل الناس كما يعيشون في يومهم ليخرجوا للعالم مؤكدين دورهم في الإضافة للتراث الإنساني عبر المشترك، ولكن أيضاً المختلف الذي يؤكد (طبيعيتهم) ويظهر فرادة ما يقدمون ليكون شيقاً وصادقاً بحيث نتمكن من تحسين الصورة الذهنية للمملكة التي طالها التشويه عبر قضايا هامشية سواء حقوقية أو عمالية أو إنسانية أو نسائية.
نحتاج اليوم إلى دبلوماسية عامة ذكية وشابة تخطط للمستقبل وتقدمنا للآخر كما نحن بصراعاتنا وآمالنا وصراخنا وقضايانا المعقدة كما في كل أسرة وفي كل وطن. دعونا نتنفس وستتغير الصورة الذهنية للمملكة تلقائياً.