د. خيرية السقاف
كان صباحًا مكتنزًا بالصقيع، حين حملت أوراقها، وكوب قهوتها، ودست نفسها في العربة تنهب الطريق إلى الجامعة، في تلك الطريق مشت العربات حذو بعضها، كل من فيها ينكفئ، السائقون وحدهم من يتلهفون المسار انتباهًا ونظرة، حدثت نفسها بأنهم جميعهم يراجعون أوراقهم، إما دارس يسترجع، وإما معلمة تضع لمساتها الأخيرة، وإما طبيب يعيد النظر في قرار، وإما رجل أعمال يستذكر أرقامه.. وإما مريض يستخرج موعده ويتأكَّد من وقته..
أما هي، فعلى دفء كوب القهوة سرت في أوردتها طفولة السؤال وعفوية الفكرة: كلنا نمضي لغاياتنا، وعند باب المبنى الكبير كان يقف، الحارس النبيل الصبور المتفاني، ركض كعادته ليفتح لها الباب، وهي في كل مرة تعيد له الشكر، وتؤكد له الاعتذار، في داخلها كانت تردد كل يوم: لماذا يفعل ذلك..؟ إذن هناك من تعود أن يجعله يفعل، أما سائقها ففي مكانه لا يتحرك، عرف منها مذ استلم مقود عربتها أن يبقى في مكانه، لا حاجة له إلى أن يغير مظهره ليبدو بالزي العام، ولا ليفتح باب العربة ليمثل التابع، وبالتالي ليس عليه أن يحمل عنها ما يرافقها من حقيبة، وأوراق، وأية تفاصيل أخرى، وإن كانت رتل المظاريف في فترات الاختبارات لإعداد تفوق حمل ساعديها..
وقفت ذلك الصباح عند سلم البهو الشاسع لتأخذ عنه طريقها إلى مكتبها، ففي الجانب المعاكس كان المصعد، لكن الواقفات في انتظاره كثر،.. اعترضتها قلة من الشابات يفترشن أول ثلاثة سُلّماتٍ فيه، فوق حِجر كل منهن كتاب، أو طبق، أو حقيبة، فيما تناثرت بقايا وجبة فطورهن جوارهن، وفي زاوية الصعود، ولم تجد منفذًا للصعود، طلبت إليهن بهدوئها أن يفسحن لها الطريق، وفي الوقت ذاته أن يلملمن بقاياهن إلى سلة النفايات التي لم تكن تبعد عنهن شبرًا،
انبرت منهن من قالت: «ليس شغلنا هذا»، فيما أشارت أخرى إلى عاملة في الممر وهي
تقول: «هذه مسؤولة عن هذا، هي هنا لتنظيف المكان»، !!..
وبهدوء سألتهن أتفعلن هذا في بيتكن..؟ وهي تنحني دون أن تتفوه بكلمة تلم تلك البقايا، أقبلت عليهن زميلة لهن تعرفها، ما أن رأتها بيد تحمل كل ما يخصها، وبيدها الأخرى تحمل لسلة النفايات بقاياهن إلا شهقت باسمها، وبمسمى وظيفتها في دهشة: «دكتورة؟ ماذا تفعلين؟»، نهضن بسرعة مرتبكات، أهذه هي العميدة؟!.. وعم الخجل والحيرة بهن..
صعدت هي دون كلمة إلا مبادلة التحية مع تلك..
بعد دقائق وقفن أمام باب مكتبها المشرع معتذرات، تقبلتهم دون أية كلمة، فشيء ما يكفي يعتلج في صدورهن، لكنها أبرمت معهن منذها اتفاقية، كان مضمونها أن يكن أعضاء فاعلات في لجنة «صديقات العمادة»، تلك اللجنة التي أنشأتها لتختص بشؤون نظام استخدام الساحات، والردهات، ولتطويع أي سلوك سالب يبدر عن طالبة، بحيث كل من ترتكب خطأ لتكفر عنه أن تشغل فيه وقتها عند ساعات فراغهن، بهدف تدريبهن على التخلص من الخطأ، ومن ثم القضاء عليه عند زميلاتها، فتتولى في وقت فراغها الإشراف على نظافة، ونظام، وهدوء الساحات، ومرافق التجمع، والإبلاغ عن المخالفات تحت ضوابط وإشراف شؤون الطالبات..
أما هذا الصباح في هذا اليوم ببرودته الفارطة، وبين يديها كوبها الدافئ وهي تمر في ممرات مماثلة، فإن المشهد الذي اندست في تفاصيله عابرة لمكتب ما، أعاد إليها ذلك الشريط يقظًا متشابهًا ينبسط بين عينيها، غير أن الردهات لا تزال البقايا فيها تتناثر، والعاملات يحملن عن بعض أشياءهن، والضجة عامرة غامرة، وعند المخرج، السائقون بألوانهم، وهوياتهم يعتمرون «الأشمغة» الحمراء، ويرتدون الثياب البيض، يوقفون العربات، ثم يفتحون أبوابها لمن لا يخرجن منها قبل أن يفعل سائقوهن هذا، وكلما خرجت إحداهن من مقرها أسرع السائق لتسلّم ما بيدها، ثم فتح الأبواب لها، وأغلقها عنها!!..
مشهد جماعي عام، وتلقائي، ينم عن صقيع آخر يُلمس، ويُرى لكنه كامن يسري في النسيج..
تلك العادات كالنار إن لم يطفئها الجميع لن يقضى على أوارها!!..
مضت بها العربة بعيدًا عن المشهد، وكوبها قد فرغ من القهوة،
لكن ذهنها شدَّ كرًا، وفرًا في مضماره..!