إبراهيم عبدالله العمار
على جزيرة صغيرة في المحيط الهادي شرق الفلبين يسكن قوم يقال لهم «ياب». شعب بسيط يقطن الأكواخ، لا يميزه شيء عن بقية أهل تلك الجزر، إلا شيء واحد: العملة. لدى الياب عملة نادرة، وهي الصخور. ينحتون عملة دائرية من صخر الكالسيت، بعض النقود قطرها عدة سنتيمترات وبعضها بضعة أمتار، والحصول عليها شاق، وهذه المشقات هي التي أعطت العملة قيمتها، فمن المشقات: هذه الصخور النادرة غالباً لا توجد إلا على جزر أخرى، وهذا يتطلب الإبحار المستمر مع خطر البحر، وسكان تلك الجزر كانوا أحياناً عدوانيين مما اضطر للقتال، ونحت العملة من الصخور شاق بسبب بعد شعب الياب عن التقنية الحديثة، ونقل الثقائل هذه على قوارب خيزرانية لمسافات طويلة أمر ليس بالهيّن، وهكذا أتت قيمة العملة: أولاً بسبب مشقة الحصول عليها، وثانياً حجمها. عملة صخرية كبيرة أتت من جزيرة كبيرة عبر مسافة طويلة وأخطار جسيمة لها قيمة عالية. عملة صغيرة نحتها صاحبها من صخرة اكتشفها بجانب كوخه قيمتها قليلة، وهكذا.
خبراء الاقتصاد يحبون مناقشة هذه المعلومة عند شعب الياب لأنها تطرح سؤالاً هاماً: ما هو تعريف «المال» بالضبط؟ ولكن هناك موضوعاً آخر تثيره هذه المعلومة يناقشه خبراء المنطق وعلم النفس: ليس بالضرورة أن كل ما يشق الحصول عليه هو الأفضل. أحياناً نعم، أشياء ضرورية أو عالية القيمة لا تحصل عليها إلا بمشقة، إلا أن هناك أشياء يحصل عليها المرء بسهولة ولها نفس القيمة أو أعلى. أين يمكننا رؤية هذا؟ أمثلة كثيرة: أموال تدفعها لدورة لغة إنجليزية أو حاسب، بينما هناك عدد هائل من المصادر التعليمية المجانية على الانترنت. تدفع لعلب الماء (أحياناً أنواع أوروبية غالية) بينما جهاز تصفية ماء تركبه مرة واحدة يعطيك نفس النتيجة أو أفضل. تشتري مأكولات وحلويات بأسعار باهظة بينما الانترنت تزخر بوصفات لا نهاية لها تستطيع إعدادها في منزلك، أنظف وأقل تكلفة. وحتى الشرع لا يَسلَم من خطأنا هذا: ما أعظم الأعمال الصالحة؟ الكثير لا يَقدر إلا أن يتخيل أشياء شاقة كالحج والصلوات الكثيرة، لكن قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث صححه الألباني أن ذكر الله هو الأفضل، حتى إنه يَفُوق التصدق بالأموال الباهظة والجهاد! غير أن أكثر الناس يفرّط فيه، ربما لشعورٍ صامت أن شيئاً يسيراً كهذا لا أجر كبير عليه، وأن الأجر للأشياء التي تحتاج صبراً وألماً.
يظل هذا المبدأ شائعاً لدى الكثيرين، ولذلك لما اكتشف غربيون قبل 150 سنة تلك المعلومة عن الياب نحتوا عملات صخرية - والفضل لتقنيتهم الحديثة - وأتوا بها إليهم ليشتروا أشياء تزخر بها جزيرة الياب كجوز الهند وخيار البحر (كائن بحري يؤكل)، ولكنهم تفاجأوا لما رأوا أن الياب أعطوا قيمة أقل للعملات الضخمة، والسبب أنهم عرفوا أن الأوروبيين حصلوا عليها بسهولة ولذلك ضعفت قيمتها!