د. خيرية السقاف
أعرفها ذكية، لماحة، كالنسمة، والعاصفة، والماء، والشلال،
من المثالية ما يجعلها في هذا الزمن نادرة،
لها من المثل العليا، والشيم النبيلة، والإحساس الشفيف بالآخرين ما انشغل عنه الناس أكثرهم في معمعة حياة تكاد تطمس بتياراتها، ومنافساتها، وحب التملك فيها، والوصولية الطاغية، ما أدى إلى التهاون في تربية الأبناء، وشيوع الإسراف في التراخي عن القرب منهم ..
كبر بعض أبنائها، ولا تزال تحدب عليهم، همها الوحيد أن يكونوا ثمارا نافعة في شجرتها الوارفة..
حين هجمت الدنيا بغثها على المجتمع، ودخلت أغبرته من المنافذ الصغيرة لبيتها، لم توصد النوافذ، ولم تطمس الشقوق، ولم تردم الثقوب، ولم تغلق الأبواب..
قالت: سيختنقون لو فعلت، وذهبت تقترب منهم أكثر، تشاركهم اختياراتهم، تجلس معهم في فراغاتهم، تتعرف الاختلافات بينها، وبينهم فتقفز عليها،
تعلمت معهم ما تجهل، أتقنت معهم ما لم تكن، جارتهم في بعض سذاجاتهم، امتزجت بأخطائهم، ومن دون تعنيف أخذت بهم إلى الطريق، لا تقريع، ولا تأنيب، ولا سخرية، ولا قسوة، كانت تلم ما يتناثر من غلطاتهم بحكمتها كما تلم بقايا الماء حين يدلقونه بكفيها !!..
يقظة تسدد وتقارب في أساليبها معهم، هم كالتيار، وهي كالمزارع !!..
إن لعبوا تلعب معهم، إن شاهدوا تشاهد معهم، إن قرأوا تقرأ معهم، إن تسوقوا رافقتهم، إن احتاروا تشاوروا..
استمالت قلوبهم حتى غدوا أقرب إليها منها، ولم يعد أحدهم يفكر في شاردة دون استشارتها، أو يقدم على أمر دون مشاركتها، فخلوتهم لم تكن تفرغ منها، وجودا، ورأيا، ودعوة، أو قبلة وابتسامة..
لذا آمنوا بنصيحتها، ورضوا بمشورتها، وتعلموا الخطو الصحيح برفقتها، والاختيار الصائب بثقتها، كلهم معا فشدن وثاق أخوتهم، أو فرا مستقلا منهم فدربت ثقتهم بأنفسهم!!..
ومع كل هذا لم تقضِ هي على الحدود الرهيفة بينها، وبين استقلالهم أفرادا لكل منهم شخصيته ورأبه، ولكل واحد في الجميع تقدير هذا، ، لكنها كسبتهم بأن جعلت من نفسها بينهم واحدة تتقبل رأيهم، وتنفذ مقترحهم، وتأخذ بما يبدون، جعلت منهم جميعهم أعضاءً يُحترم واحدهم دون أن يطمس آخرٌ فيهم الآخرَ منهم..
لم تنهر بقسوة، ولم تتسلط بقوة، ولم تهددهم بعقوبة، ولم تستقل بأنفة، ولم تقوَ على ضعفهم، ولم تحقر سلوكا لهم، ولم تشعرهم بشك، أو تلومهم على سهو..
بيتها خلية حب، ومأوى تآزر، وبوتقة تكوين، ومصنع إنسان..
وهي خلال هذه المسيرة كانت قد جعلت الله ثالثهم في كل أمر، فآمنوا بيقين أنه يراهم، ويسمعهم، وأن المآل مهما طال السفر إليه، فأحبوه، وأقبلوا على طاعته، وتوقوا الأخطاء من خشيته.
لقد زرَعَتْ بوعي، وجهاد، وصدق، هذه الأم النموذج.
ليت كل الآباء، والأمهات يصنعون الإنسان داخل قوالب أبنائهم مثلها، ليجعلوا منهم بشرا سعداء بإيمانهم وأخلاقهم، منتجين ،متصالحين، منجزين، يطوعون عقبات الحياة بإدراك وثقة.