د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
قد لا يعرف المرء ما هو الكوميك كون، وربما ليست لديه الرغبة ليعرف ما هو، فمجالات الترفيه اليوم لها أمزجة ومذاقات أكثر من أن يتابعها الفرد. لكنه، بسبب الجدل المحتدم، يعرف أن الكوميك كون ضرب من ضروب الترفيه ينطوي على قدر لا بأس به من التهريج والهزل في قوالب وردتنا من الخارج كعادة كافة أنشطتنا الترفيهية الأخرى: عرب أيدول، من يربح المليون، شباب التوك الخ. بل لا أبالغ إن قلت بأن استعارة قوالب البرامج بكافة أنواعها، ترفيه وغيره، تتم إما بشراء الحقوق أو التقليد، وهذه سمة غالبة على برامجنا الجادة أيضاً كبرامج الحوارات التي تضج بها قنواتنا، أو حتى برامج الوعظ الديني التي تطور بعضها ليحذو حذو البرامج التبشيرية في وسط أمريكا وأوروبا التي تستقطب المشاهدين البسطاء وتدر المال الوفير. فالترفيه، والإعلام بكافة جوانبه يدور اليوم حول المال، فتش دائماً عن الدولار، الريال في وضعنا، لتعرف كيف أن الترفيه الذي يصلك يرفه عن جيب غيرك ممن يقف خلفه. والخلاصة أن الترفيه صناعة بضاعتها التسلية وغسل الهموم.
لا أعرف عسى ما يكون الكوميك كون، وربما ليس لدي الوقت لذلك لأني عودت نفسي طيلة هذه السنين على مراقبة الزمن يمضي، وتعويد نفسي على القناعة بأن للملل والرتابة جوانب ترفيهية لم ألاحظها من قبل. فيكفي أن يعوّد المرء نفسه على مراقبة سمت الزمن الرتيب يبتلعه الماضي في خضم حياة اجتماعية أكثر رتابة فيكيف نفسه مع ذبذباتها بصبر مميت يزيد من وهج البهجة المفاجئة. من الملل أصبحنا لا ندرك الملل، نعيش الملل الطويل لنبتهج في سويعات قصيرة لنلام إذا نسينا فيها أنفسنا.
لا أعرف الكوميك كون، لكني أعرف شباب وشابات وطني الغالي، أعرفهم وأثق بهم وبأخلاقهم ثقة لا تزعزعها لحظة بهجة مفاجئة. فهم تربية مجتمع صالح يعرفون معها حدود الحرية والانفتاح الممنوح لهم، فالثقة أساس المجتمع الصالح، وأساس التعامل بين أفراده وفئاته المختلفة، وإذا انتفت، حضر الشك والريبة ومعها القيود والمطاردات التي لا ينتج عنها إلا الاحتقان والاحتكاك وظن السوء. كل قيود الأرض لا تستطيع الإحاطة بعدم الثقة. وما اختفت الثقة من مجتمع إلا وحاقـت به مصائب حذرنا منها ديننا الحنيف، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
ليس من العدل أن نقيس تصرفات شبابنا، ولا أقول هنا أخلاق شبابنا، بتصرفاتنا بعد أن تجاوزنا مرحلة عنفوان الشباب، وليس من العدل أن نتظاهر بأن ما فعلنا في شبابنا طيش، وما يفعله أبناؤنا في شبابهم انحراف، وليس من العدل أن نوحي لهم بأن الانغلاق، وقمع ذواتهم هو الصلاح. فسنة الله في خلقه أن جعل لحياة الإنسان أطواراً مختلفة تتسم نفسيته بسماتها التي يفرضها تطوره الطبيعي، وقمعها لا يؤدي إلى مزيد من الصلاح بل إلى انحراف في الاتجاه الأخر. والمثل الشعبي يقول: «يا لايم الصبيان يوم أنك صبي». وأخرج الصحيحان أن بعض مهاجري الحبشة كانوا يلعبون في فناء مسجد الرسول، وكانت عائشة ترتقي كتف الرسول وتنظر مشهد الأحباش الذين كانوا يرقصون أمامه.
السؤال الذي يجب أن يطرح، لم إقبال شبابنا على الكوميك كون أو الراب أو غيرها؟ والجواب هو أننا طيلة أجيال سابقة كنا نتعامل مع أطفالنا وشبابنا على أنهم شيوخ وكهول، وكنا نحاول دائماً أن نحدد لهم كيف يترفهون، ولا نترك المجال لهم لتحديد ذلك بأنفسهم. لم نقبلهم كفئة مختلفة وأصرينا دائماً على عدم الثقة بهم، وفسرنا كل تصرفاتهم بمعايير الريبة والشك. منعناهم من دخول الأسواق والأنشطة الأخرى، ودفعناهم للانزواء في الاستراحات، وملاحق المساكن يراقبون ما تقذفه الفضائيات، والشبكة العنكبوتية عليهم. لم نترك لهم مجالاً للترفيه إلا في أضيق الحدود بما لا يرونه هم ترفيهاً. ونظرنا دائمًا للترفيه على أنه ملهاة عن أمور أخرى وليس حاجة فطرية. ولذا لم يتطور الترفيه لدينا، ولم نطور وسائل ترفيه محلية خاصة بنا، واكتفى بعض كهولنا وشيوخنا بالترفيه خلف الأبواب الموصدة. دول مجاورة لنا، طبيعتها لا تختلف عن طبيعتنا، سمحت بكل شيء، أكرر كل شيء، ولكن شبابها، أو فلنقل معظم شبابها، لم ينجرف وراء غرائزه كما كنا نعتقد، بل إن بعض شبابنا عندما يسافرون لهذه الدول يقومون بذلك نيابة عنهم.
نتكلم كثيراً عن التسامح والوسطية وفضائلهما، وفي أقرب مجال للاختلاف، نشن حرب شعواء على من يخالفنا. فالتسامح هو أن نتعايش، أو ربما لا نتعايش مع من يختلف عنا، ولكن ليس أن ننقض عليه ونحاصره بالشكوك والاتهامات لأنه يخالف معاييرنا، فهذا ليس تسامحًا ولا وسطية. لا أعتقد أن ما جرى في ترفيه الكوميك كون من احتفاء وفرح مبالغ فيه موجب للشجب إلا إذا قسنا ذلك بمقياس سوء الظن والريبة، وهذا ما نهانا الله عنه صراحة. فعلينا فعلاً أن نرتقي بتفكيرنا ولا أن نفسر كل شيء على أنه بالضرورة يفضي لما تسوله أنفسنا لنا. وعلينا أن نثق بشبابنا حتى لا نخسرهم. والله من وراء القصد.