د.عبدالله مناع
بعد هذا النجاح السياحي (الداخلي) الرائع، الذي تحقق في إجازة منتصف هذا العام أو إجازة الربيع - كما يسميها البعض - من خلال حفلي: مركز الملك فهد الثقافي.. الموسيقي الغنائي والثقافي التشكيلي، الذي شهده مسرحه.. مساء يوم الخميس - السادس والعشرين من شهر يناير الماضي - وسط حضور جماهيري من الجنسين امتلأت به مقاعد المسرح.. قبل ساعة من بدء فعاليات الحفل.. ولأول مرة في حياة العاصمة (الرياض).. بعد سنوات العطش والجوع لهذا النوع من الحفلات الغنائية الموسيقية الذي امتد غيابها لأكثر من ثلاثين عاماً، وحفل ملعب (الجوهرة) الغنائي الذي تبعه في (جدة) بعد ثمانية وأربعين ساعة، وشارك فيه (فنان العرب) الأستاذ محمد عبده إلى جانب عدد من المغنين السعوديين (ماجد المهندس ورابح صقر)، اللذان امتدا من الرياض وجدة.. إلى مهرجانات تسوق مختلفة.. شهدتها بعض مدن القصيم وحائل والأحساء.. حتى بدت معه إجازة منتصف هذا العام وكأنها لم تحدث من قبل، ليتأكد لـ(الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني) التي تعرف ما يريده ويبحث عنه السائح.. ولكنها تجامل بعض الفئات المتنفذة فيما تدعيه من أن (السياحة) هي مناخ بارد في الصيف.. وفنادق ومقاهٍ ومطاعم و(مولات) للتسوق، ولا شيء غير ذلك.. أو بعد ذلك!؟ بينما هي تعرف عن يقين بأن (السياحة) تكمن في الإجابة عن هذين السؤالين: أين يذهب السائح.. في الصباح في وطن يشكو قلة في أعداد متاحفه تبلغ حد الشظف؟ وأين يذهب.. في (المساء)..؟ في وطن.. لا يعرف دوراً لـ(السينما) أو (مسارح قومية) تناقش هموم المجتمع وقضاياه.. أو حتى قاعات تُقدم على منصاتها فنون الوطن وتراثه الشعبي وأهازيجه التي يتغنى بها في أفراحه وأحزانه..؟
* * *
نعم.. كان نجاح إجازة الربيع لهذا العام باهراً.. بـ(حفليه) الغنائيين وبموسيقى (الجاز التي صدحت في فضاء مسرح المركز الثقافي بـ(الرياض)، ومسرح الـ(كوميك كون) الذي قدم شخصيات الكرتون العالمية.. حية على مسرحه في (جدة)، وكان أجمل ما في هذا النجاح.. هو قطع الطريق على تلك (الفزاعات) التي كان يبثها المتنطعون.. عن (الفوضى) التي سيشهدها مسرح مركز الملك فهد الثقافي في الرياض أو الطرق المؤدية إليه، وتلك التي ستشهدها ملاعب (الجوهرة) المغطاة.. في جدة، وعن الانحرافات الأخلاقية التي سترتكب في كليهما من قبل شباب حضورهما، والتي لا ترضي خلق المسلم وضميره.. ولكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فقد مضى الحفلان في الرياض وفي جدة.. بأعلى المستويات الحضارية: دخولاً وجلوساً واستماعاً وتشجيعاً وانصرافاً، فلم تسجل على الحفلين.. أي حادثة من حوادث الشغب أو الفوضى أو إغلاق للشوارع والميادين المؤدية إليهما، وكان الفضل في ذلك.. دون شك.. لوعي آلاف الحاضرين من شبابه، الذين أدركوا بحاستهم الوطنية أن هناك من يتربص بهذه (الخطوة) الحضارية الطبيعية.. وأن أي شغب ستشهده المناسبتان - مهما ضؤل حجمه - حتى ولو كان من ذلك النوع الذي تعرفه ملاعب كرة القدم بين مشجعي وأنصار الفرق الكروية المتنافسة.. فإنه سيقضي على هذه الخطوة الجميلة.. التي انتظروها طويلاً، وسيعطي المتنطعون الذريعة لـ(اغتيالها).. بحجة درء المفاسد، ومنطق: ألم نقل لكم ذلك من قبل.. فلم تستمعوا..؟! لكن شباب حضور الحفلين.. فوتا عليهم الفرصة في دخولهم إلى المسرحين.. وفي جلوسهم واستماعهم واستمتاعهم وانصرافهم.. دون أدنى ضجة أو فوضى، فإذا كان الأستاذ (محمد السيف).. مدير مركز الملك فهد الثقافي الجديد.. يستحق التهنئة لإقدامه على استضافة مغنين على مسرح المركز وفرقة موسيقية لـ(الجاز).. مرة، فإن شباب الحضور الذين ملأوا جنبات المركز في تلك الليلة في الرياض، ونظراءهم في ملعب الجوهرة.. في جدة يستحقون ألف تهنئة على وعيهم وسلوكهم الحضاري، الذي كان نموذجياً.. في كل تفاصيله.
* * *
لقد تزامن مصادفة خلال أسبوعي إجازة الربيع.. إطلاق (هيئة السياحة والتراث الوطني) أخباراً سياحية مفرحة.. عن إعادة ترميم قصر الأمير إبراهيم في الأحساء - أو الهفوف - بعد تعرضه للأمطار والسيول التي اجتاحت المملكة مؤخراً.. وعن إعادة صياغة الواجهة البحرية - المطلة على الخليج - لقصر (العقير) التاريخي، ليكونا موقعين سياحيين تاريخيين.. تشد إليهما رحال هواة تاريخ الجزيرة العربية وعشاقه.. والمستثمرون فيه من قبل، وهو ما دفع إلى ذاكرتي بالسؤال عن (موقدة) حاتم الطائي - أكرم كرماء العرب - في (حائل)، والذي جرت أحاديث - من قبل - حول ترميمها وإحيائها.. ثم تراجعت تلك الأخبار بحجج واهية إلى درجة نسيانها، وبـ(السؤال) عن (جبل التوباد).. الذي شهد أجمل قصص الحب العربية.. ولم نأت على ذكره في ثقافتنا أو في صحافتنا.. إلا من لمحاتٍ عنه في بعض بحوثنا الأكاديمية، والذي كانت لي معه أغرب قصة، فقد كنت أظن أنه جبل من جبال شمال غرب الجزيرة العربية.. منذ أن استمعت إلى تلك المقاطع التي اجتزأها الأستاذ محمد عبدالوهاب من مسرحية أمير الشعراء (أحمد شوقي) الشعرية (قيس وليلى) وغناها مشاركة مع الفنانة (أسمهان)، والتي كان من بينها قصيدة (جبل التوباد) التي جاءت في المسرحية على لسان (قيس) وهو يخاطب جبل التوباد.. ويناجيه قائلاً:
(جبل التوباد حياك الحياه
وسقى الله صبانا ورعا
فيك ناغنيا الهوى في مهده
ورضعناه فكنت المرضعا
وعلى سفحك عشنا زمنا
ورعينا غنم الأهل معا
وحدونا الشمس في مغربها
وبكرنا.. فسبقنا المطلعا)
إلى آخر القصيدة.. التي كان من أجمل أبياتها: كلمة ولحناً.. قول (شوقي) على لسان (قيس):
(هذه الربوة كانت ملعبا
لشبابينا.. وكانت مرتعا
كم بنينا من حصاها أربُعا
وأنثنينا فمحونا.. الأربعا
وخططنا في نقى الرمل فلم
تحفظ الريح ولا الرمل وعى
ما لأحجارك صُماً.. كلما
هاج بي الشوق أبت أن تسمعا
كلما جئتك.. راجعت الصبا
فأبت اياه أن ترجعا
قد يهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا)
ولكن عندما اتسعت بنا المعرفة.. علمنا بأنه جبل من جبال الجزيرة العربية.. بل ويقع إلى الجنوب الغربي من (الرياض)، وعلى بعد خمسة وثلاثين كيلاً من مدينة (الأفلاج).. وسط وادي المغيال، وقد شهد قصة ذلك الحب في القرن الأول الهجري.. والتي أصبحت مضرب الأمثال في قصص الحب والهوى كقصة (روميو وجولييت).. التي جاءت بعدها بمئات السنين، ولذلك أحسب أنه جدير بالتفات (السياحة والتراث الوطني) إليه، والاستثمار فيه.. لأنه شاهد على تاريخ أمة، حوت أرضها.. مهبط الوحي ومسرى (الرسول) صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى (توحيد) الواحد الأحد، وضمت في جوانح إنسانها.. أنبل مشاعر الحب وأعظمها.. تلك التي عاشها (قيس بن الملوح)، ومات.. دون أن ينال من ذلك الحب مأرباً.. ليكون أعظم عشاق التاريخ وشهدائه.