د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في الأسبوع الماضي وفي الفترة من 23 - 24 من الشهر الحالي ركبت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة» مركبًا فارهًا يُشير بدلائل كبرى أنها تبحث عن صناعة النزاهة في بلادنا بنموذج فريد ودود لا يُفسدُ للود قضية!؟ وذلك عندما أقامت مؤتمرها الدولي الثاني المعنون بـ الحوكمة والشفافية والمساءلة» وقد رفعت الهيئة الموقرة ألوية المؤتمر برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين. وشهدتُ يومي المؤتمر وطروحاته، وحقيقة كانت مسيرة حافلة من قوافل المتحدثين الحكماء والعقلاء المحلية والعالمية الذين تحدثوا باستفاضة عن صناعة النزاهة من منطلق الحوكمة الرشيدة ومكاسبها من الشفافية والمساءلة؛ وأجزم أن الهدف كان ساميًا والتوجيه في ذلك شرعي وأثير قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرض وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة.
وقبل المؤتمر الأول إلى بزوغ فجر المؤتمر الثاني ما زال الحديث عن الفساد مثيرًا وصادمًا في بلادنا وبين أوساط العامة والخاصة؛وإن كان الفساد وباءً عالميًا يتفاوت وقعه وواقعه وفق طقوس التعامل معه، وهنا في بلادنا ومنذ أن جاءت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة» إلى سدة الحكم والاحتكام لتتبوأ مكانًا ذا كواشف خاصة؛ وإطلالة مختلفة عن الأجهزة الرقابية ذات العماد [ديوان المراقبة العامة، وهيئة الرقابة والتحقيق، وهيئة التحقيق والادعاء العام] وواقع «نزاهة «وإن خفيت علينا جلّ دروبه ما زال يستقصي ويلتقط ويرصد؛ وعسى ألا تكون الهيئة الموقرة وصلت إلى مرحلة أطباء الطوارئ الذين يجيدون التشخيص ولكنهم لا يملكون صلاحية البدء في العلاج، فأصبحت الهيئة الوليدة «نزاهة» تنفق أوقاتها في المؤتمرات والحفاوة بكل دراسة لعل مولودًا يولد بليل، ولو قولبت «نزاهة» الأمر لعقدت مؤتمراتها مع فئات الشعب، واستنطقت واقع الفساد من خلالهم، وإن كان جل الفساد يمارس في الأروقة الخلفية، ويشرّع من وراء حجاب، فلو استكتبتنا «نزاهة» عن صور الفساد لرصدناها بالتوالي، وتبدأ بالسكوت عن الحق والحقيقة خشية فقدان مقعد، وتنتهي بمفاتيح خزائن قارون {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فالتقصير في معالجة السلبيات فساد، وبطء الخطوات الإصلاحية فساد وإصدار التنظيمات دون دراسة مستفيضة لما وراء النظام ومستوى تحقيقه لفائدة المستهدفين فساد، وانعدام أو ضعف نواتج الخدمات بأنواعها قرُبت أو بعُدت فساد، والتدريب في غير أهله تخصصًا ومكانًا فساد، وتغييب المعلومات الصحيحة عن صاحب القرار فساد، والتعامل مع الوقائع حين وقوعها فقط فساد لأن البحث من جديد في أبجدية الواقعة يؤدي إلى إشراع بوابات المنتفعين ليصطادوا، وعدم تحديد الصلاحيات والمسؤوليات فساد ينجم عنه عدم قدرة من حُمّلوا ذلك على صناعة القرار وتوجيه العمل في المؤسسة لأن تضارب المهام يوهن عزم المرؤوسين، ويعيق انسياب المهام بين السلطات داخل المؤسسة وربما يستفيد أحد الأطراف من تلك الثغرات فيقطف دون رقيب، ومن ثم تفقد الشريحة التنفيذية مقومات النجاح، وتطمر الإبداعات وينتشر تسطيح الواقع، وذاك شيء من الفساد الإداري، أما الفساد المالي وفساد الذمم فذاك {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} لن يحصيه إلا عفريت من الجن!؟ كما أنه من الأطر الصحيحة أن تجتهد (نزاهة) مع جهات الاختصاص في التعريف بشتى صور الفساد، والتديد الدقيق لذلك مما يمكن من آليات المتابعة من الأجهزة الرقابية الأخرى، كما أن أصحاب الضمائر البيضاء يحتاجون إلى جرعات كافية من الأمان بأن أصواتهم سوف تصل دون مساس بحقوقهم ولا حقوق الآخرين، وأن تتركز التوعية على البسطاء لذين ربما كانوا جسورًا للمفسدين من المتنفذين، وأن يعي الجميع أن أبسط عناوين النزاهة هو الالتزام بعدم المجاوزة وعدم قبول مجاوزة الآخر، وأن تكريس استيعاب محاربة الفساد يبدأ من غرس ثقافة احترام الأنظمة، فقوة النظام وإحكامه وتماسك القواعد وحماية المنابع من «قطاع الطرق» وتمهيد السبل إلى المصبات النافعة دون شوائب المنتفعين هو الانطلاق الصحيح نحو المجتمعات النقية قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (81) سورة يونس.
ونداء أخير إلى القائمين على مؤتمرات نزاهة «أن يستضيفوا عنترة بن شداد الجاهلي ليكون متحدثًا رئيسًا في مؤتمرهم المقبل حيث إن لديه استراتيجية شجاعة لمحاربة الفساد والتعدي؛ يقول عن سر انتصاراته في الحروب «إذا لقيتُ القوم عمدتُ إلى الضعيف فيهم فصعقته صعقة يطير لها قلب الشجاع».